الإسلام السياسي وتحدي الديمقراطية والمسألة الاجتماعية
د. منى فياض
الاشتباك الحاصل بين حزب الله الذي يخلط بين كونه مقاومة لبنانية صرفة، ومشروع ثورة إسلامية أممية، وبين النظام المصري وشبكته الأمنية، تطرح مسألة الحركات الإسلامية الأصولية، (أو ما يسمى بالإسلام السياسي) وبرنامجها التي تعد به الجماهير في سياق انتقادها وتحريضها على الأنظمة العربية العاجزة والمتعثرة هي بدورها عن تقديم أنموذج ناجح للنهوض بالشعوب التي تحكمها. لكن الإسلام السياسي بدوره لم يبرهن عن نجاحه في تقديم أنموذج بديل ناجح، ليقدمه للجماهير التي يعدها بالجنة على الأرض.. من إيران إلى السودان إلى السعودية.
يشير سمير أمين أنه تم اختراع الإسلام السياسي الحديث من قبل المستشرقين الذين عملوا في خدمة البريطانيين في الهند، قبل أن يستعاد من قبل المودودي الباكستاني. وكانت وظيفته البرهنة أن المسلمين المؤمنين لا يسمح لهم بالعيش في دولة لا تكون هي نفسها إسلامية. كان ذلك استباقاً لتقسيم الهند وانفصال باكستان عنها. حجتهم أن الإسلام يجهل إمكانية فصل الدين عن الدولة. وفات هؤلاء المستشرقون ملاحظة أنه لم يكن بإمكان بريطانيي القرن الثامن عشر تصور العيش خارج المسيحية. استعاد إذن أبوالعلا المودودي مقولة إن السلطة تنبع من الله وحده، رافضاً مفهوم المواطنين الذين يحق لهم التشريع، فليس للدولة سوى تطبيق القانون الموضوع مرة وحيدة إلى الأبد، أي الشريعة. وليس في الأمر أي جديد، فلقد سبق أن وقف بعض المفكرين الغربيين ضد الثورة الفرنسية لارتكابها جريمة اختراع الديمقراطية الحديثة التي حررت الفرد.
هكذا نجد أن الإسلام السياسي يرفض مبدأ الديمقراطية نفسه، أي حق المجتمع ببناء مستقبله بواسطة حرية التشريع التي يعطيها لنفسه. والمشكلة أيضاً تكمن في إيجاد موقع للفرد في عالم إسلامي في طور التكوين، عقب تفكيك بنيات المجتمعات التقليدية نتيجة لتمدن متوحش، ولتفكك بنيات الترابط الاجتماعي القديم، ودخول اقتصاد السوق والدول التسلطية باسم التحديثية. يشكل هذا الفرد مشكلة، لأنه رهان المجتمعات التي لا تتجاوب دولها مع طموحاته، إلا عبر استبداد متفاقم. فتجد الإيديولوجيات الإسلامية الجديدة نفسها في موقف مزدوج: من جهة، تزعم حفظ مكانة لهذا الفرد كنظيره الغربي، لكنها من جهة أخرى، تخضعه لدستور أمة جديدة. ما يعني في النهاية رفضه عبر وضعه في مكانة هامشية. التناقض يكمن في أنها تعترف به كفرد، فيما تريد إخضاعه للأمة الجديدة التي تكونها.
ما يقترحه الإسلام السياسي ليس سوى القضاء على تطور بدأ بالفعل في البلدان المعنية، هادفاً إلى إعادة نظام تيوقراطي محافظ مقرون بسلطة سياسية على الطريقة المملوكية. أي طبقة حاكمة عسكرية تضع نفسها فوق القانون باسم الشريعة ومستحوذة على الحياة الاقتصادية.
ولا فرق بين مختلف هذه الحركات، سواء سميت معتدلة- كالأخوان المسلمين- أم إرهابية، فجميعها تسعى إلى إقامة حكم تيوقراطي معاد للديمقراطية، محاولين تطبيق الشريعة التي يفترض أنها الجواب عن كل المسائل وفي كل الميادين. ومن يحق له إقامة شرع الله (الحاكمية) سوى رجال الدين «المؤهلين» لذلك و«وليّ الفقيه» من أجل ممارسة كافة السلطات!
لا يمتلك الإسلام السياسي أي مشروع له بعد اجتماعي، من أجل النهوض بالمجتمعات ومساعدتها على مواجهة هيمنة الأنظمة الرأسمالية الغربية. فالجمهورية الإسلامية في إيران تقدم أنموذجا تيوقراطياً واضحاً، فالسلطة في أيدي المؤسسة الدينية الشيعية انتظمت فيما يماثل الكنيسة. وسلطة آيات الله التي أعطت في بداياتها بعض الأمل لكونها قلبت نظام حكم الشاه الاستبدادي لإقامة نظام اجتماعي عادل بديل له، لم تنجح في ذلك، لأنها لم تضع علاقات القوى المسيطرة على المجتمع موضع تساؤل، فظلت قوى البازار من التجار والتكنوقراط والأجهزة الأمنية على حالها، وأضيفت اليهم طبقة رجال الدين. ووهم التغيير بعد الثورة سرعان ما تقلص، ما يذكّر بأن طبقة الملالي سبق أن تعاونت مع الشاه ومع السي.آي. أي، للانقلاب على حكومة مصدّق. وإيران الإسلامية لم تختلف عن الأنظمة التي تنتقدها، فنجد أنها لم تستطع القيام بأية تنمية اقتصادية أو اجتماعية. وديكتاتورية رجال الدين التي حلت محل ديكتاتورية الشاه العسكرية، لم تفعل سوى التسبب بتدهور النظام الاقتصادي وإيران التي طمحت إلى التشبه بالنهضة الكورية، لم تفعل سوى الانضمام الى مجموعة بلدان العالم الثالث.
لكن الخميني نجح حيث فشل قطب، في إنشاء دولة إسلامية. ووجد حلاً ملتوياً للمأزق الذي عاناه قطب، في التوفيق بين حرية الفرد ومتطلبات الحياة الاجتماعية التي يسيطر عليها الإسلام، إذ من المؤكد أن الشعب هو من ينتخب، لكن المرشد هو من يتمتع بالسلطة العليا في ولاية الفقيه. وصحيح أن الشعب هو الذي يصوت، وبإمكان صوته أن يؤخذ في الحسبان في تعيين رئيس الجمهورية والبرلمان. بيد أن السلطة الحقيقية تكمن في مكان آخر، لدى المرشد الذي لا يعينه الشعب مباشرة. لم يحل النظام مأزق التمثيل إلا عبر اللجوء السحري إلى الإسلام. فالوحدة الجميلة التي نادى بها لم تتجاوز اختبار الواقع. وحيث تسود الشرعية الشعبية في إيران (البرلمان والرئيس)، لا توجد سلطة، وحيث توجد السلطة الحقيقية (المرشد والبنى التي تحيط به) لا توجد شرعية شعبية.
إن عدم حساسية السلطة الدينية الإيرانية تجاه المشكلات الاجتماعية التي تعاني منها فئات الشعب التي دعمت وصولها الى السلطة كإصلاحيين ضد نظام الشاه الظالم، ولكي يرفعوا عنهم الظلم تجعل ممكناً أن يرفض هذا الشعب -ذات يوم- مبدأ ولاية الفقيه، هذه التي تضع طبقة رجال الدين فوق كل مؤسسات المجتمع المدني والسياسي. وهي لا تختلف عن الأنظمة العربية التي تحتقرها وتحرّض شعوبها عليها. فالفقر والقمع هما سيدا الموقف، فعلام كل هذه الضجة «الثورية» الملتحفة بالإسلام والمزايدات وادعاء التمايز عن الأنظمة السائدة، من أجل الهيمنة الفئوية غير المتكيفة مع عالم متجه نحو المزيد من الانفتاح والديمقراطية.
كاتبة من لبنان