صفحات مختارة

الخطاب الاسلامي و”النهايات”

إبراهيم غرايبة
النهايات تعني هنا انتهاء مرحلة وبداية مرحلة أخرى، وهي حالة فيها من التداخل والفوضى والشك ما يجعل التفكير صعبا والرؤية معدومة تقريبا، وهي حالة لا تختص بالخطاب الإسلامي ولكنها أصابت الأفكار والنظريات والموارد والأعمال جميعها عندما هبت على العالم موجة المعلوماتية والعولمة، ولا بد أن الخطاب الإسلامي قد تعرض لهذه الموجة، ويحتاج أيضا أن يشكل مفاهيم وحالات ومعاني وأفكارا جديدة مختلفة عما درج عليه الخطاب طوال العقود والقرون الماضية، مرة أخرى فإن هذه النهايات تمتد وتطال كل ما درجت عليه الأمم والدول والمجتمعات، والجميل (والمخيف أيضا) في هذه المرحلة الجديدة من وجهة الحضارات والمجتمعات أن المجال مفتوح (فوضى) لجميع الناس للتفكير والاقتراح على قدم المساواة تقريبا، فهي مرحلة منقطعة عما سبقها، وتكاد تكون الخبرات والتجارب السابقة غير كافية او عاجزة عن تلبية وإجابة الأسئلة والمتطلبات الجديدة.
ولا بأس من تكرار القول بأن الخطاب الإسلامي هو “خطاب المسلمين”، فهو، في وصفه، إسلامي نسبي إلى المسلمين، ونسبي أيضاً بمعنى “النسبية” أي أنه يسعى للاقتراب من الصواب والعدل، لكنه حتماً ليس الصواب المطلق، ولا الحالة المطلقة التي لا يجوز مراجعتها والتخلي عنها، فالنسبية أولاً، وإن بدأت نظرية علمية فيزيائية أُطلقت عام 1905 على يد عالم الفيزياء المشهور (اينشتاين) لكنها اليوم فلسفة وقاعدة عامة تمتد إلى كل شؤون العلم والفكر والحياة وتعبر عن اكتشاف حقيقة عميقة في الكون والحياة.
إن دراسة تداعيات المعلوماتية والاتصال وفهمها سيؤدي بالتأكيد إلى صياغة خطاب إسلامي جديد يأخذ بالاعتبار هذه التحولات التي صنعت عصراً جديداً، وحولت البشرية إلى مرحلة جديدة هي الأهم في مسارها على مدى التاريخ بعد مرحلتي الزراعة والصناعة.
الخطاب الإسلامي (والحركة الإسلامية جزء من هذا الخطاب) والتحوّلات الحضارية والاجتماعية والأحداث الكبرى الجارية والمصاحبة لهذه التحولات قضية تصلح موضوعاً لتفكير وحوار طويل وممتد، فهي تثير شبكة من الأسئلة والتداعيات والإشكاليات والأفكار المتصلة، والتي تحتاج إلى بحث عميق، وعصف ذهني حول قضايا وتداعيات ربما لم تُبحث من قبل على نحو منهجي وموضوعي.
وربما تستطيع مجموعات من المثقفين- وبخاصة من الجيل الذي شهد هذه التحوّلات وراقبها- أن تُجري عمليات تفكير وعصف ذهني وحوارات تخرج بمجموعة من الأفكار القابلة للنشر، وتكون دليلاً مقترحاً للعمل الإسلامي في مرحلة جديدة تختلف أدواتها ومداخل العمل فيها كثيرا عن المرحلة السابقة.
هذه السيادة للنسبية تجعل الخطاب نسبيا أيضا (نهاية المطلقية) والشبكية التي تترسخ في المعرفة والإدارة تزيد من شأن المجتمعات على حساب الجماعات (نهاية الجماعات)، وحالة الشك والفوضى التي تعم الأفكار والفلسفات تجعل من الصعب وصف الأهداف والمطالب بأوصاف يقينية، ولكنها حالة متحركة وعائمة (من الدولة الإسلامية إلى دولة المسلمين، ومن الإسلاميّة عموماً إلى المرجعيّة الإسلاميّة) وبتغير مفهوم السياسية (ما بعد السياسة) فإن الخطاب يتحول من السياسة إلى الإصلاح، ومن الإسلام هو الحل إلى الإصلاح هو الحل، وفي حالة المساواة والشبكية فإن التواصل والعمل والبحث (والفتوى أيضا) تتحول من من الهرميّة إلى الشبكيّة، ومن التلقي إلى المشاركة، ومن الحتمية والأُحاديّة إلى الانتقاء والتعدّديّة، ومن أُحاديّة الصواب إلى تعدّديّته، وفي حالة الشك والفوضى فإن الخطاب يتحول من الكمال أو مظنة الصواب والكمال إلى محاولة الاقتراب منه (نهاية الصواب)، ومن المثاليّة إلى التراكم، فالاستيعاب، فالإبداع، فالتراكم مرة أخرى، ومن وهم الصواب إلى حقيقة السؤال، ومن لذّة اليقين إلى قسوة الشك، ومن متعة الوصاية إلى مشاركة المجتمع، ومن “غيتو” الجماعات والتنظيمات إلى فضاء الزمان والمكان، ويحتاج الخطاب أيضا إلى التمييز بين الوحي المقدس والملزم وبين التراث والإنساني، والتمييز بين النص وبين قراءاته وتفسيره، والتمييز بين الدين والدولة.
الغد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى