القداسة بين الإسلام السياسي، السلطة، و مفهوم الحرية الإنسانية
مازن كم الماز
ان نزع القداسة عن السياسي أكبر من مجرد فصل الدين عن الدولة، إنه في جوهره نفي القداسة عن الدولة أو السلطة، أية سلطة
لم يكن صعود الإسلام السياسي رد فعل فقط على انهيار مشاريع الخمسينيات و الستينيات بل كان أيضا ردة فعل على الواقع السياسي و الاجتماعي السائد، إن رد الحاكمية لله لا يشكل فقط تعبيرا عن إحياء الفكر الديني بقدر ما هو احتجاج على واقع الحكم الراهن، الاستبدادي و الفردي و فاقد الشرعية، و بالتالي فما يقف في معارضة أو مواجهة هذه الحاكمية التي يدعو إليها الإسلام السياسي ليس حاكمية الإنسان المقهور بل حاكمية السلطة القائمة، أغلب النقد الموجه للخطابات الأصولية السائدة يهدف إذن أن يدافع عن السلطة القائمة في وجه أكثر أشكال الاحتجاج الفكري و السياسي شعبية اليوم في الشارع، في الحقيقة و خلافا للنقد الموجه للخطابات الأصولية فإن الصفة الاحتجاجية للأصولية المعاصرة و معارضتها للقوى المهيمنة هي السبب الحقيقي وراء شعبويتها و ليس مجرد عودة هيمنة أشكال العلاقات الاجتماعية و أشكال التفكير التقليدية الماضوية التي تنتج عن أزمة هذه القوى و الأنظمة المهيمنة و ليست هي سبب أزمتها تلك، هذا ما رأيناه في أكثر من مكان وخاصة في الجزائر في أول فرصة سنحت للناس لكي ينتخبوا لأول مرة بحرية معقولة من يحكمهم ليختاروا فورا أصحاب الخطاب الإسلامي الاحتجاجي، تكرر هذا في الضفة و غزة حيث صوت الناس ضد بيروقراطية السلطة الفلسطينية، لكن هذا الاحتجاج يبقى سلبيا ، مجرد احتجاج، و قد يكون في طبيعة الفكر أو التفكير الديني من صفات خاصة تجعله أقرب للعب دور احتجاجي “سلبي” بالضرورة، سلبي بمعنى أنه نفي للواقع السلبي أو لما هو سلبي في هذا الواقع أكثر منه رؤية واضحة للبديل عنه، هذا ما نلاحظه مثلا في غياب أية برامج واضحة و محددة للحركات الأصولية المعاصرة أو برامج ذات ملامح محددة، هذا ما شاهدناه أيضا في استلهام حركات الإسلام الجهادي للتراث الفكري للخوارج الذي يقوم على مركزية فكرة الثورة أساسا و حاكمية الله، هذا التراث الذي تتخلى عنه اليوم مع مراجعاتها التي قامت بها مؤخرا نحو تبني المقاربة الحنبلية للسلطة، المقاربة التي تقر بأولوية السلطة و حتى تضعها في مركز المقدس الديني.
إن مجال التنافس اليوم بين الأصوليين و السلطات القائمة هو في الأساس على مكانة القداسة، على وضعية القداسة، المطلقة فوق المجتمع، تطرح السلطة نفسها، و يتحدث عنها أزلامها و المدافعين عنها كشيء مقدس مطلق خارج النقد و فوق البشر، تماما الوضعية التي تنسب للدين، للمقدس، تريد السلطة، الدولة، النظام القائم، أن تعرف الهوية بها، على الضد من التعريف الأصولي أو القومي لتلك الهوية، مستفيدة من قوة الأمر الواقع، ليس فقط الانتماء للدولة يراد له أن يشكل جوهر هذه الهوية، بل أكثر من ذلك، الولاء لرأس الدولة، للحاكم المطلق، للديكتاتور، هو ما يراد له أن يعرف هذه الهوية الجمعية للناس و للمجتمع، لا يبدأ اغتيال العقل على يد الأصوليين، و ليسوا وحدهم من يريد اغتياله لصالح سلطة مطلقة يزعمونها، السلطة القائمة لا يمكنها أن تمرر مزاعمها بالقداسة دون أن تغتال العقل في كل لحظة و دون توقف، وحده القمع المنفلت يمكن أن يعطي شيئا من المعقولية لهذه المزاعم، الخيار هنا هو بين خصخصة القداسة لصالح الأصولية أو تأميمها و جعلها ملكية للدولة ، هنا سنجد أن الإخوان المسلمين أكثر أنصار الديمقراطية البرجوازية “التمثيلية” صدقا ، فهذه الديمقراطية البرجوازية اليتيمة التي تفتقد أبا، بسبب غياب أي برجوازية خارج البرجوازية البيروقراطية و الطفيلية المرتبطة بها ( هشام طلعت مصطفى و أحمد عز، مخلوف في سوريا، الأمير الوليد بن طلال )، الفارغة من أي مضمون، إلا المضمون الإيديولوجي المعادي للأصولية أساسا، و ضمنا للإنسان نفسه و خاصة لحريته، إيديولوجيا تخدم الاستبداد و تعززه، كما كانت القومية بالأمس تؤدي ذات الوظيفة للسلطة القومية، و في نفس الوقت حررتهم من عبء الإرث التاريخي لما يسمى بالحكم الإسلامي الذي لا يزيد عن كونه حكم أوتوقراطي غاشم، و من جهة أخرى يوفر لهم فرصة الوصول إلى السلطة، لكنهم، مثل بعض الليبراليين المخلصين، يعجزون عن فهم هذا العجز الغريب لهذا النموذج و عقمه ككل الأشكال التي أخذها الفكر النخبوي الباحث عن الطريق الحقيقية المؤدية إلى النهضة على امتداد أكثر من قرن، إن تجاوز الديمقراطية البرجوازية يحتاج إلى أكثر من رغبة عارمة في الوصول إلى السلطة، و إلى أكثر من رغبة في إعادة موضعة القداسة لصالح قوة خارج السلطة القائمة، إن حرية الناس الفعلية تحتاج إلى استبعاد القداسة من الحقل السياسي، و إلغاء أي مطلق متعال فوق الناس، هذا أبعد بكثير من إمكانيات الأصوليين و من حدود مشروعهم الغارق في تقديس السياسي و بالتالي تهميش الناس و المجتمع حتى أذنيه، و هذا يبدو حتى اللحظة غير ممكن بالنسبة لليبراليين و حتى اليسار السائد، لأن هدفهم هو تأكيد قدسية السلطة القائمة لا نفي هذه القداسة عن السياسي، هذا ما نراه في عجز الفكر السياسي الليبرالي أو اليساري السائد عن استيعاب الاحتجاج الجماهيري و ربما عدم رغبته حتى باستيعاب هذا الاحتجاج أو التعبير عنه لأنه يصر على أولوية الدولة المنتهك الأول و الأكبر للشرعية و للجماهير اليوم في مجتمعاتنا، إن نزع القداسة عن السياسي أكبر من مجرد فصل الدين عن الدولة، إنه في جوهره نفي القداسة عن الدولة أو السلطة، أية سلطة، و وضع الناس، لأول مرة في التاريخ ربما، في مركز السياسي أو تحويل السلطة إلى الناس لا إبقائهم عبيدا لأي كان، هذا هو جوهر المشروع الثالث الذي يمكنه أن ينزع صفة القداسة عن السياسي و يجعله في خدمة الإنسان و المجتمع، لا العكس أبدا…