السياسة والزعيم
سليمان تقي الدين
تقوم الحياة السياسية في عالمنا المعاصر على ثلاثة نماذج: الأول هو النموذج الاديولوجي (الديني أو العلماني) الذي يمكن ملاحظته في إيران والمملكة العربية السعودية أو الصين. الثاني هو النموذج البيروقراطي التكنوقراطي الذي يكاد يغطي أكثرية الدول الصناعية المتقدّمة من أميركا الى أوروبا واليابان. الثالث هو النموذج الزعاماتي (الكاريزماتي) الذي يميز فنزويلا اليوم وعدداً من دول العالم الثالث، والعالم العربي خصوصاً. هذا التقسيم الذي استوحيناه من (ماكس فيبر) ما يزال صالحاً ويكاد يلخص اتجاهات الفكر السياسي الحديث.
ويمكن الحديث هنا عن دولة عضوية (شمولية تعاضدية) ودولة ديموقراطية (ليبرالية مواطنية) ودولة فردانية (محورها الزعيم).
لكن هناك علاقة عضوية جدلية بين الدولة أو الحياة السياسية وواقع الجمهور، من حيث ثقافته السياسية واحتياجاته النفسية. ما يميز التجربة اللبنانية أننا في كيان سياسي ما قبل الدولة بالمعنى الحديث. إن محور الحياة السياسية ليس الدولة بل الجماعات الطائفية. لذا نجد أن معايير الوصف تتجه إلى «القيادة الطائفية»، وليس إلى قيادة الدولة. فلبنان ليس دولة دينية أو أديولوجية، وليس دولة مواطنة بيروقراطية تكنوقراطية، وليس دولة الزعيم الأوحد. أما الحياة السياسية في لبنان فهي في حال من التباين والتعددية. لدينا في الجماعات الطائفية الآن النموذج السياسي العقائدي وبصورة خاصة الديني. ولدينا النموذج الأقرب إلى البيروقراطية التكنوقراطية. ولدينا نموذج الزعيم الأوحد.
إلا ان المشترك بين تجارب الجماعات الطائفية هو حاجة الجمهور إلى الزعيم. في هذا النموذج يعتبر جمهور كل طائفة أن زعيمه هو الأفضل على الإطلاق ويتميز عن الآخرين. يصعب اكتشاف أية معايير موضوعية في هذا الصدد، لأن الفروقات كبيرة بين قدرات الزعماء الطائفيين اللبنانيين ومؤهلاتهم، من حيث ثقافتهم وذكاؤهم وخبراتهم السياسية وتجاربهم. ويمكن لمراقب موضوعي محايد غير منغمس في المصالح والأهواء السياسية ان يحدد هذه الفوارق بسهولة. لكن المسألة دائماً ان الزعيم يحظى بالنفوذ نفسه داخل طائفته، حتى لو كان لا يملك المقومات ذاتها كما الزعيم الآخر. الملاحظة التي يجب التركيز عليها هنا هي ان الجمهور هو الذي يصنع الزعيم، هو الذي يريده مقرباً متفوقاً فاعلاً نافذاً مهاباً وبعيداً عن أي شكل من أشكال المساءلة والمحاسبة والتقويم.
في اللقاءات الشعبية أو الجماهيرية يؤخذ الجمهور ويستسلم لتصرفات الزعيم، لحركاته وسكناته ونبرته وخطابه ومفرداته وشطحاته وسفاهته ونكاته وصراخه وتحريضه وانفعالاته. بل أهم من ذلك كله ان الجمهور يقبل الإهانة المباشرة من الزعيم حتى لو وصفه بالبلاهة او الجهل او سوى ذلك من الأوصاف. في عملية القيادة يمارس الزعيم دور الموجه والمربي والمثقف ويلعب دوراً أبوياً بطريركياً سلطوياً مباشراً. هو من يُخضع الجمهور أو يقمعه أو يلجم أهواءه وميوله وطموحاته، وهو من يطلق العنان لأوهامه وأحلامه. ينطلق الزعيم من بنية الوعي الجماعي الطائفي أو الديني ويتحرك في دائرتها. هو يغرف من الرأسمال الشعوري الجماعي ومن المخيلة العامة التي تحرك عواطف الجمهور. ليس لدينا الآن قادة مصلحون يريدون الارتقاء بوعي جمهورهم إلى مستوى مشروع الدولة.
لدينا زعماء يمارسون السياسة وفق موازين القوى المتاحة وعبر وسائلها التقليدية. لا يمكن أن تشحن جمهوراً بالعصبية الطائفية وتأخذه إلى مشروع الدولة. الدولة في بلادنا يتيمة بلا أب لها ولا أم تحتضنها. ان فكرة الدولة عندنا هي أقرب إلى فكرة السلطة. الدولة هي مرجعية النفوذ، لأن القانون ليس سيداً فيها والمؤسسات ليست الإطار الناظم بين تناقضات السياسة. نحن شعب متخلف بالمعنى السياسي، رغم «التسييس المفرط» الذي نعاني منه. نحتاج إلى الحداثة السياسية في الخطاب والبرنامج وفي الرؤية ونحتاج إلى القيادة السياسية والاجتماعية، وليس بين أيدينا إلا «زعماء». وليس من قبيل الصدفة اننا لا ننشئ أحزاباً حديثة بل تيارات تتجمع من حول شخصيات نمنحها سلطة التصرف بمقدراتنا كلها.