النخبة، السلطة، المجتمع، و النهضة و الحرية
مازن كم الماز
منذ بداية ما يسمى عصر النهضة و النخبة مستنفرة تحاول أن تكتشف أو تخلق الطريق الذي يؤدي إلى هذه النهضة ، لكن الغريب أنه كلما بدا لهذه النخبة أنها أقرب ما يكون من هذا الطريق اكتشفنا فجأة أننا ما زلنا بعيدين جدا حتى عن معرفة اتجاه هذا الطريق نحو النهضة و قد تطور نتيجة ذلك اتجاه آخر في الإنتاج الفكري للنخبة ، اتجاه إجباري هذه المرة ، يتمثل في سعي النخبة الدائم لتبرير هذا العجز و نسبته إلى هذا السبب أو ذلك ، في نفس الوقت تعتبر النخبة أن كل محاولات النهضة هذه كانت نتيجة لفعلها هي ، أو على الأقل مشاركتها الضرورية ، و بالتالي فإذا ما تمكنا ذات يوم من اكتشاف ذلك الطريق المؤدي إلى النهضة فهي ستكون نتيجة لهذا الفعل النخبوي ، سيفيدنا هنا أن نعود إلى التاريخ لنرى كيف كان دور النخبة في الإنتاج الحضاري في الفترة التي تعتبر العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية في القرون الوسطى ، لم يكن دور النخبة رئيسيا في الأحداث التي أدت إلى الانقلاب الأموي و تشكيل الدولة الأوتوقراطية ، بدا كل شيء و كأنه كرة ثلج تستمر بالتدحرج من غزوة إلى أخرى و من فتح إلى آخر دون أن يستطيع أي كان أن يدعي أنه صاحب الفضل في كل ما جرى ، إن حالة الصعود هذه هي مثال كلاسيكي على التفسير الخلدوني لصعود الدول أو القوى الحضارية ، في وقت لاحق مع ترسخ السلطة المطلقة للسياسي و توفر حالة عالية من الرفاه الاقتصادي نتيجة الفتوحات بدأت النخبة إنتاجها الفكري و الثقافي ، تشكلت النخبة أولا من رجال الدين و الأدباء خاصة ، لم يكن بعد المشتغل بعلم الكلام أو الفيلسوف قد ظهر بعد ، و قد لعبت في بداية تطور المجتمع العربي الإسلامي القروسطي دورا هاما في التعبير عن المجتمع و عن التيارات التي تضطرم داخله ، فقد شكل رجال الدين و الأدباء جزءا هاما من المعارضة للسلطة الأموية ، رغم أن دورهم لم يكن أيضا مركزيا في تشكيل الفرق الإسلامية مرة أخرى ، الذي حددته الأحداث داخل الأرستقراطية القبلية المتنافسة على السلطة ، كان الخوارج و الشيعة الأوائل ذا اهتمام محدود بالإنتاج الفكري ، بل يمكن القول أن الكتلة الأساسية من تلك النخبة ، رجال الدين ، شعراء ، كانت تقف إلى جانب المعارضة ، يكفي أن نذكر الحسن البصري و سعيد بن المسيب و أبا حنيفة النعمان و أن نذكر أن أقرب أفراد النخبة للسلطة ، إذا استثنينا بعض الأزلام المباشرين ، كانوا القائلين بموقف سلبي من استبداد و ظلم السلطة كعبد الله بن عمر مثلا ، عمليا كانت كل الفرق الإسلامية في المعارضة ، حتى المرجئة كانوا في صف المعارضة ، بينما نجد أن المعتزلة التي تطورت عن القدرية تقف إلى جانب الانقلاب الذي قام به الأمير الأموي الوليد بن يزيد داخل القصر و الذي هدف إلى تأسيس سلطة جديدة تماما متناقضة بالكامل مع ماضي السلطة الأموية ، بعد هذا بدأ التراجع فورا ، كان عمرو بن عبيد ، المؤسس الثاني للمعتزلة إلى جانب واصل بن عطاء ، قد عبر عن الانتقال إلى المعارضة السلبية للسلطة ، العباسية هنا ، عندما أكد رفضه للسيف و رفضه دعم خروج ذو النفس الزكية على الخليفة العباسي الثاني المنصور ، على العكس مثلا من مرجئي كالإمام أبي حنيفة النعمان .
سنبدأ بملاحظة أنه كلما أوغل المعتزلة في الإنتاج الفكري المعقد فيما يخص مواضيع أكثر تجريدا كصفات الله و خلق القرآن كلما أصبح المعتزلة يقتربون أكثر فأكثر من السلطة القائمة التي كانت تبحث عن قاعدة فكرية عقيدية لتبرير وجودها و وضعيتها المطلقة ، أي كفكر رسمي للدولة كما يسمى حاليا ، و كان سعيهم لعقلنة النص المقدس وراء واحدة من أقسى المحاولات لفرض فكر رسمي تبريري “عقلاني” تولوا هم خلق جانبه النظري ، هذا لا يعني أن القسم الرافض لأية عقلنة من المؤسسة الدينية وقف ضد السلطة ، فقد أصر ابن حنبل ، الخصم الرئيسي للمعتزلة ، على أن يوجه نقده ضد خصومه الفكريين المقربين من السلطة دون تلك السلطة ، و رفض ابن حنبل رفضا قاطعا حتى فكرة الخروج على السلطان ، و تبعه في ذلك ابن تيمية و ابن الجوزية و غيرهم من طلابه الهامين ، و عندما انقلب المتوكل على المعتزلة أصبحوا هم مكانهم ، في إخضاع الفكر ، الرافض للعقلانية هنا ، لخدمة مصالح و مآرب السلطة ، الأشكال الأكثر جذرية من العقلانية ، كالفلسفة المشائية ، نشأت عموما في قصور السلاطين ، ابن سينا ، الفارابي ، ابن رشد ، كان من الواضح أنه مع تعقيد مستوى الإنتاج الفكري للنخبة كانت هذه النخبة تصبح طبقة أشد عزلة عن المجتمع ، ذات مصالح و أفكار خاصة بها ، تتعلق بمحاولة قيادة المجتمع أو توجيهه ، و لو من وراء و في ظل السلطة المستبدة ، بالنسبة للمفكرين العقلانيين كان تحويل هذه السلطة إلى سلطة متنورة هو هدفهم السياسي الفعلي ، و بالنسبة للمنكرين لهذه الاتجاهات العقلانية كان تحويل السلطة عن تلك الاتجاهات و قمعها هو هدفهم السياسي المعلن ، المحاولة الأخيرة لتكوين معارضة ، أو بديل ، حقيقي للسلطة تمثلت في حركة إخوان الصفا ، و امتدادها في الحركة الإسماعيلية ، لقد أنشأت هذه الحركتان أكبر منظمة هرمية شديد التنظيم لبناء بديل عن الخلافة العباسية ، لكنها استندت إلى أشد موقف تسليمي من الجماهير تجاه النخبة ، عندما اعتبرت الإمام المعصوم هو مصدر الحقيقة عن الواقع و هو الحاكم المطلق الجدير هذه المرة .
هناك مفاهيم وضعها اليسار اللا ستاليني في أواسط القرن العشرين و هي المادية و المثالية النقديتين ، و المادية و المثالية غير النقديتين ، السلطة ، لا مشكلة لديها مع المثالية و لا حتى المادية غير النقديتين ، بل إن هذه الخطابات تشكل عادة أساس الخطابات السلطوية ، في المادية و المثالية غير النقديتين تصبح النخبة جزءا عضويا من بنية السلطة ، التي يمكن أن تتغير من “اليسار” إلى “اليمين” و بالعكس وفقا لمصالحها الخاصة ، دون أن يعني هذا تغييرا جديا في بنيتها الفعلية ، انقلاب المتوكل على المعتزلة ، انقلاب بيروقراطية الدولة الناصرية على “الناصرية” نفسها ، إن تمايز النخبة يقوم على واقع هو أنها أكثر تطورا من الجماهير ، أنها تملك القدرات لإنتاج فكري ذا معنى ، و السلطة تستخدمها عادة بسبب هذه القدرات الحصرية التي تمتلكها ، لكن الشرط الأول و الدائم لهذا التمايز هو في إبقاء الجماهير بحالة تخلف سياسي و فقر فكري ، هذا يضع مصالح النخبة كنخبة في مواجهة الناس العاديين ، في مواجهة البشر الآخرين ، الذين يجب أن يبقوا مادة للانقياد ، في أفضل أحوالها أرادت النخبة أن تحكم الجماهير بنفسها على شاكلة جمهورية أفلاطون – الفارابي التي يقودها الفلاسفة و اعتبرت هذا هو أفضل حالة ممكنة للسلطة ، و لكنها على الأغلب اكتفت بدور “مفكري”السلطة ، في حالة النهضة العربية المعاصرة فإنها تمثل قدرة مجتمعية أكثر منها حالة سلطوية أو نخبوية ، إن قراءة النهضة الغربية أو صعود الإمبريالية ( و من ثم الإمبراطورية ) الأمريكية يمكننا من تحديد العوامل الموضوعية ، و الذاتية دون شك ، في عملية النهضة هذه ، حيث لعبت النخبة دور الناطق و خالق الخطاب الفكري للطبقات الموجودة ، و غالبا للطبقات السائدة ، لكن من السخف الزعم بأن النهضة كانت نتاجا لفعل النخبة ، وحده على الأقل ، انتقلت النخبة من الترويج لمثالية غير نقدية إلى مادية غير نقدية و بالعكس ، في عالمنا العربي انتقل ولاء النخبة من الليبرالي القومي في مطلع القرن العشرين إلى القومي الاشتراكي في منتصفها و أخيرا الليبرالي الغربي أو المركزي الأوروبي في نهايته دون أن يعني هذا أكثر ، أو دون أن يؤدي ، إلى أكثر من تغيير في خطابات الأنظمة السائدة ، بقيت بنية الأنظمة القائمة شبه ثابتة و بقيت البنى الاقتصادية و الاجتماعية تدور في دوائر مغلقة تعيد إنتاج التخلف الاجتماعي باستمرار ، إن المادية النقدية ( أي التي تقوم أساسا على نقد الوضع القائم و خاصة علاقات السلطة و الملكية السائدة ) تختلف تماما عن المادية غير النقدية ، رغم سعي “الماديتين” لاستنباط أفكارهما من مرجعية فكرية واحدة ، في الحقيقة هناك فرق جذري في النهاية بين الماديتين في النظر إلى كل شيء ، خاصة قضية الحرية ، التي تصبح حرية الناس العاديين في الأولى و خضوعهم لحكم “متنور” أو “رشيد” في الحالة الثانية ، في الحالة الأولى تصبح المادية النقدية ناطقة بلسان الجماهير نفسها بالضرورة و في الثانية بلسان النخبة في أحسن الأحوال ، و بلسان السلطة في الأغلب ، هذا لا علاقة له بالنهضة العامة ، إنه جوهر الصراع السياسي و الاجتماعي الدائر في مجتمعاتنا…….