الصعود الإسلامي والتقدم العربي
ياسين الحاج صالح
لعل التوازن الاستقطابي هو ما يفسر ضعف حركات المعارضة الديمقراطية والليبرالية واليسارية، فهذه لا تستند إلى القطاع الحديث و’التقدمي’ الذي ينتظم بالأحرى حول الدول، ولا إلى الرصيد الرمزي والاجتماعي للدين، فإذا منحت الأولوية لمخاصمة ‘الدولة’ الاستبدادية وجدت نفسها أقرب إلى القطب الديني ومهددة بالدوران في فلكه؛ وإذا بالعكس فاقت خصومتها للإسلاميين ‘الرجعيين’ ما عداهم، وجدت نفسها أقرب إلى النظم الحاكمة المتعايشة مع الثنائية الاجتماعية.
فصل الصعود الإسلامي الأكثرية العربية الإسلامية السنية عن التقدم العالمي، فأفضى إلى تثاقل حركة مجتمعاتنا، وإلى انقسامها وتعميق انغرازها في الاستبداد. نعني بالتقدم في هذا السياق المخصوص نموذجا عالميا مهيمنا للاقتصاد (رأسمالي، منتج، متطور تكنولوجيا…) وللسياسة (دولة قومية، عقلانية وديمقراطية) وللحياة الاجتماعية (حرية الأفراد في سلوكهم وأنماط حياتهم و«تحرر المرأة»…) وللثقافة (حرية التفكير والقول والنشر والاعتقاد و«عبادة» الإبداع…). لا حاجة لافتراض اتجاه محدد للتاريخ. التقدم محقق عبر تعميم النماذج المشار إليها. العالم العربي والإسلامي متعثر في هذا المجال، وتعثره يتجاوز التخلف الاقتصادي والاستبداد السياسي إلى منازعة هجومية في الأسس الثقافية والاجتماعية للتقدم.
احتضان التقدم من أي أقليات دينية أو مذهبية لا يكفي، وإن خلق ضربا من التوازن الاجتماعي المضاد لسيطرة الإسلاميين، السنيين (لا نتكلم على الإسلام الشيعي لأنه أقلي عربيا، ولأننا أقل اطلاعا على أحواله). بيد أن هذا التوازن هو من وجهة نظر تاريخية شلل: مجتمع لا يتقدم لأن أكثريته تنجذب نحو مثال انعزالي وغير تقدمي. ولما كانت العودة إلى الوراء ممتنعة، فسيكون الاستبداد هو الحل. وإلا فالانقسام. انقسام البلدان صعب، لذلك تنقسم المجتمعات ويسود الاستبداد.
لا يكفي ولاء أقليات للتقدم لأنها من غير المحتمل أن تنجح في قيادة أكثريات يجنح وعيها الذاتي إلى الانتظام حول الدين أو المذهب. في القيادة عنصر معنوي مفتقد عند أي منحدرين من أقليات في مثل هذه الشروط. هذا فضلا عن أنه يحتمل أن يكون التقدم في مثل هذه الشروط استراتيجية هوية، الخيار الأنسب لصعود جماعات أقلية ونيلها أسبقية سياسية ومادية ضمن مجتمعاتها. هذا تقدم فاقد لطابعه الوطني والتحرري المفترض، ويثير شعورا بالاستلاب عند جمهور أكثري تنغلق آفاق تطوره المادية والسياسية، وفي المحصلة يتعمق حرون الأكثرية وارتياب الأقلية ومعضلة القيادة ورسوخ الاستبداد.
مجتمعاتنا المعاصرة متوازنة فعلا، لكن توازنها مستقطب وقائم على انقسام: دولة ودين. في أكثر البلدان العربية تنتظم أقليات دينية ومذهبية ولغوية واجتماعية، قديمة أو حديثة، حول الدولة، فيما تنتظم حول الدين قطاعات مهمة من الأكثرية الدينية، ونتكلم عن توازن لنقول إن الطرفين متساويين تقريبا، فليس صحيحا أن قطب الدولة أقلّي يتسلح بالقوة المحضة، وأن قطب الدين أكثري هو «الأمة». ذلك أن الأكثرية الدينية ذاتها منقسمة في الغالب، وقسم منها يتفاوت حجما أقرب إلى قطب الدولة، ولو من باب أن هذه حارسة لضرب من «الحداثة». في الحساب النهائي، نخمن بوجود أفضلية نسبية لقطب الدولة. وهذا وضع مرشح لأن يتعزز بقدر ما يبرز عجز الإسلاميين عن اقتراح مخارج إيجابية من مشكلاتنا الوطنية والاجتماعية. هذا شرط ألا ننسى أن عجز قطب الدولة المتمادي عن حل المشكلات ذاتها يحد من قدرته على توحيد المجتمع المحكوم حقوقيا وسياسيا، أي على تطوير نموذج متماسك للتقدم الوطني. في الأصل، العجز هذا هو ما يبقي القطب الديني قويا نسبيا، وبينما تتغير العلاقات بين القطبين حسب المراحل والأزمات التي تعرض، فإنها تبقى توازنية على العموم.
هذا ما يبدو لي أنه يمكن استخلاصه من مسار التطور السياسي لكل من سورية ومصر والجزائر وتونس في العقود الثلاثة الأخيرة. لدينا مجتمعات ثنائية القطب، أحد قطبيها ذو عمق أكثري مبدئيا، لكنه محافظ ومندار نحو الماضي، وقطبها الآخر منفتح على الحداثة وأنماط حياتها التقدمية، لكنه فاقد للطاقة الهيمنية. وهو لا يبدو عاجزا عن الدمج الوطني، بل لعل شرط استمراره هو ضعف الاندماج واستمرار الثنائية الاجتماعية.
ولعل التوازن الاستقطابي هذا هو ما يفسر ضعف حركات المعارضة الديمقراطية والليبرالية واليسارية، فهذه لا تستند إلى القطاع الحديث و«التقدمي» الذي ينتظم بالأحرى حول الدول، ولا إلى الرصيد الرمزي والاجتماعي للدين، فإذا منحت الأولوية لمخاصمة «الدولة» الاستبدادية وجدت نفسها أقرب إلى القطب الديني ومهددة بالدوران في فلكه؛ وإذا بالعكس فاقت خصومتها للإسلاميين «الرجعيين» ما عداهم، وجدت نفسها أقرب إلى النظم الحاكمة المتعايشة مع الثنائية الاجتماعية. والاستقطاب الحاد لا يسمح بتكون موقع ثالث مستقل.
كانت الحركة القومية العربية وحّدت الأكثرية الإسلامية السنية والتقدم، توحيدا هشا، ينبغي القول: توحيدهما مجددا يقتضي العمل على إصلاح التفكير الإسلامي السني، ولا مناص من إقرار نهائي بحرية الاعتقاد الديني للأفراد جميعا ومن الفصل بين الدين والسيادة، أي فصل الدين عن كل من العنف والولاية العامة. لا نرى كيف تتحالف الأكثرية الدينية في بلداننا مع التقدم دون ذلك.
كان ياسين الحافظ، المفكر والمناضل السوري، يرى أن «القوم السني» هو «صاحب القرار التاريخي» في التقدم العربي، وينعى على هذا القوم تقليديته و«سنّيته». ما جرى خلال جيل انقضى على وفاة الحافظ يؤكد كلامه، وإن بصيغة معكوسة: إن انزلاق قطاعات مهمة من القوم السني إلى تقليدوية مناضلة سد دروب التقدم العربي، وإن من غير المحتمل أن تنفتح هذه دون إعادة هيكلة الوعي والتفكير الإسلامي بما يتيح للجمهور السني العام الانخراط الإيجابي في صنع حياة جديدة لنفسه ومجتمعاته.
المسألة تتعلق بشغل على الدين لا يبدو أنه يمكن التغاضي عنه. هذا لا يعني بالضرورة أن الدين مسؤول عن تأخرنا، لكنه يعني حتما أن كل ما هو متأخر في حياتنا يجد اليوم معتصما سهلا في الدين. الأمر يقضي فيما نرى بضرورة تشكل الإسلام في صيغة مختلفة، أقبل للتقدم.
يبقى السؤال: هل فصل الصعود الإسلامي الجمهور السني عن التقدم، أم أن انكسار التقدم هو ما أفضى إلى الصعود الإسلامي؟ ألم يكن انهزام وتفكك الحركة القومية العربية إثر هزيمة 1967 هو ما مهد الطريق للصعود الإسلامي؟ نشك في ذلك. كان التقدم العربي في صيغة القومية العربية هشا، قائما على أساس رملي، لكونه لم يكن مؤسسا على إعادة تشكيل الموروث الديني والثقافي والاجتماعي، أي «الإصلاح الديني» و«النهضة» و«المواطنة». ولقد يسر الانكفاء إلى إسلامية مناضلة ما تحمله هذه من طموحات سياسية تحاكي طموحات النخب القومية. أو بالأصح كانت النخب القومية إما إسلامية التكوين أو تقليديته، وليس إلا طبيعيا، تاليا، أن تستقر على وعيها الأساسي، الإسلامي، حين انهار بنيانها الواهن.
بورقيبة استثناء في هذا الصدد، ولعله تحقق لتونس تقدمات مهمة في مجال الأحوال الشخصية والنمو الاقتصادي والحياة الأكاديمية لهذا السبب. هذا رغم أن التقدم التونسي مشوب باستبداد فاقع، ورغم أن تونس تعرض اليوم الثنائية الاجتماعية ذاتها، ما يدل على ضعف الطاقة الاستيعابية لتقدمها، ما يثير الشكوك في إمكان استدامته.
كاتب سوري
خاص – صفحات سورية –