تفكيك المشهد ومقاربة الأسئلة الفعلية
نهلة الشهال
تهمة نشر التشيع في مصر، التي وُجهت إلى رأس الخلية التابعة لحزب الله في مصر متهافتة قانونيا ووقائعيا، ولكن بيان الادعاء ثم الإعلام الرسمي أبرزها بشدة وكررها في محاولة لتسويقها. فبغض النظر عن حقيقة أن ذلك ليس توجه حزب الله في أي مكان توجد له فيه عناصر طبيعية، أي مجموعات بشرية تؤيده أو تنتمي إليه ومقيمة علناً، كحال العديد من الدول الأوروبية، فهي متهافتة لأنها تخالف طبيعة المهمة التي كلف بها سامي شهاب، بل تعيقها تماما.
وعلى كل حال فقد نفاها الرجل بشدة. ورغم ذلك، بقيت مطروحة في التداول بإصرار يشي بالغاية منه، أي التحريض الطائفي، والإمعان في رعاية الاستقطاب السني-الشيعي العنيف الذي انطلقت شرارته من العراق، ونظّر له ملك الأردن عبر جملته الشهيرة عن الهلال الشيعي، ثم رعته أحداث لبنان المتلاحقة. وصلت الرغبة في الغرْف من هذا المعين حدّ أن مسؤولا مصريا تكلم عن مشكلات حزب الله مع المغرب (حيث يفترض أن هناك «ظاهرة» تشيع، بينما الوقائع تدل على حوادث هي من الضعف والفردية بما يكفي لإثارة الانتباه إلى أسباب تضخيمها على هذا الشكل)، والكويت والبحرين واليمن، وهي بلدان يشكل الشيعة تاريخيا نسباً متفاوتة الحجم من سكانها الأصليين!
كما لا تستقيم تهمة التخطيط لعمليات تخريبية داخل مصر، لأنها تخالف هي الأخرى وظيفة تلك الخلية، ولأن ذلك ليس توجه حزب الله في أي مكان، ليس تعففاً ربما، بل لإدراكه خطورة تبني مثل تلك السياسة، حيث تنفتح عليه جبهات متعددة لا يقوى على التعامل معها بل تتمكن من استنفاد كل طاقاته. أي هو قرار سياسي معلن تكرارا. ورغم نفي المعتقل للتهمة وتشديده على وجود تعليمات صارمة لديه بتجنب أي عملية داخل الأراضي المصرية، أيا كانت طبيعتها، استندت تصريحات المسؤولين والسياسيين المصريين المتصاعدة النبرة إلى تلك التهمة، وزايد واحدهم على الأخر في حرمة ومنعة مصر.
وكانت كالعادة مناسبة للتهجم على السيد حسن نصر الله شخصياً، في محاولة لابتذال ما يحيط بشخصه من احترام. بل وصل بعض المزايدين في سياق التصعيد إلى طلب ضمه إلى ملف الاتهام.
وكانت أثيرت موجة مشابهة، وإن أقل عنفاً، ردا على مناشدته الجيش المصري إسعاف غزة أثناء العدوان عليها، ما أراد الحكم في مصر فهمه كتحريض للجيش عليها، بينما تقول البداهة أنه على العكس من ذلك، كان تعبيرا عن رغبة في إبداء الاحترام لمصر وجيشها الوطني تعويضا عن الانتقاد الموجه إلى سلوك حكامها السياسي. وقد تكون الصياغة غير موفقة، وربما لم تتنبه إلى آليات إدراك الموقف مصرياً، حيث في الخيال الجمعي تتطابق الدولة وحكامها، وقد ينطبق على الحادثة أن «عين البغض تبدي المساوئ»… ولكن المؤكد أن السيد نصر الله يعرف أنه لا يتم تحريض أي جيش من الخارج ومن دون مرتكزات.
واليــوم، تنطلق الحملة على الرجل مستندة إلى «وقاحة» اعترافه العلنـــي بصلــــة حزب الله بتلك الخليـــة، بينما كـــــان ذلك تحملاً للمسؤولية في سياق لا ينفصل عن وجههـــا الآخـــر، وهــو توضيح حدود الحدث وغاياته، من أنه لا يستهدف مصر أو توريط مصر، بل وجهته غزة فحسب.
نصـــل إلــــى بيت القصيد. فالحادث مثير ليس بسبب تلك الجعجعة خارج الجوهر، بل لأنه يطرح تساؤلا يصح علــــى حـــزب الله كما على سواه: هل يمكن لقوة سياسية تعين هدفهـــا بأنه الصراع مع إسرائيل أن تبقى محلية؟ في فترات سابقة، كانت الأحزاب السياسية تعترف وتقر بقوميتها، أو حتى بأمميتها. كانت تلك حالة الأحزاب الشيوعية والبعث والإخوان المسلمين.
وكانت هناك تنسيقيات لبعضها تطابق تلك الدائرتين، أو تحالفات غير مستترة. وقد ظل حزب الله يرفض رسميا هذا البعد، إلى أن نكتشف أن هناك «وحدة مصر»، و«مكتب فلسطين» وعلى رأسهما إطار اسمه «دول الطوق»! والعيب في ذلك ليس في وجود تلك الهيئات، بل في إحجام حزب الله عن مطابقة الحاجة إليها والتنظير لها. وهو على الأرجح ظن أنه بالإمكان التعامل مع مهامها بطريقة لوجستية، عملية وعملياتية فحسب. ولعله ظن أيضا انه بذلك يتجنب صواعق غضب الأنظمة العربية، ويخفف من قوة الهجمة الدائمة عليه واستهدافه كحالة توفرت لها أسباب وظروف القوة الكبيرة بينما هي تسبح عكس التيار. من المبكر بالطبع استنتاج موقف من الحادث المصري أو البناء عليه. ولكن الإشكالية مطروحة اليوم بقوة على حزب الله، كما هي مطروحة على فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى سائر المجموعات السياسية التي لا تقوم على غايات محلية محصورة: ما هي شروط العمل من أجل تعديل توازن القوى مع إسرائيل؟ وبالطبع، وثانيا، ما هي الاشتراطات التي تترتب على الجواب؟
إن «ورطة» حزب الله اليوم مع مصر تنتمي بالتأكيد إلى هذه الإشكالية المغيبة، أو التي سُعي إلى تجاهلها والالتفاف عليها، بينما تظهر بوضوح استحالة هذا التغاضي. ثم إن إسرائيل تتباهى بنقيض ذلك الإحجام، فترسل طائراتها لقصف قافلة عسكرية تسير داخل الأراضي السودانية، على بعد 1500 كيلومتر من حدودها، بذريعة أنها كانت متجهة إلى غزة. «يعترف» بذلك ايهود أولمرت، مضيفا أن يد إسرائيل كانت وستبقى طويلة. حدث ذلك منذ أسابيع قليلة، في أواخر أيام العدوان على غزة، دون أن تنقلب الدنيا على إسرائيل، ودون كلمة تنديد أو إدانة عربية واحدة للفعلة. بينما إسرائيل دولة يفترض أن تضبط سلوكياتها المواثيق الدولية. هذا إذا لم نذكر إلا تلك الواقعة. فما المقياس؟ ثم ما الأمر؟
أهو حقاً «حرمة الدول وسيادتها»، أم أنه صراع على الخيارات السياسية، وهو ما يبقى من الحادثة بين مصر وحزب الله – وهو حزب وليس دولة، ولا تنطبق عليه، رغم قوته، معايير الدول في علاقاتها المتبادلة.
فكم يصمد في دائرة الظل وبين السطور، الخطاب الضمني، الخطاب الفعلي، ويبقى الزبد محتلا الواجهة…
الحياة