القاطرة
خالد غزال
تشكل الإنتخابات النيابية، في البلدان التي تعتمد نظاماً برلمانياً، أحد المظاهر الدالّة على ممارسة الديموقراطية التي تسمح للشعب بأن يختار ممثليه بحرية ليعبّروا عن مصالحه وتطلّعاته في حكم أفضل. تنحكم الإنتخابات عادة الى صراع مصالح وأهداف وطنية عامة ومحلية تتصل بالواقع الوطني، وهذا شأن خبره لبنان في عقود سابقة الى هذا الحد أو ذاك. منذ سنوات، وحصيلة للإنهيار البنيوي الناجم عما تسببت به الحرب الأهلية، ونتيجة لخضوع البلد الى وصايات خارجية، وتشلّع بناه الداخلية، باتت الديموقراطية التي تمثل الخيار الحر شبه مفقودة، وحلّت محلها عصبيات طائفية تقطر الانتخابات النيابية، ومعها مجمل الحياة السياسية، وتحدد مجراها ممارسة ونتائج، مما يسمح بالقول ان الممارسة الديموقراطية تبدو في الحالة اللبنانية بعيدة عن التجسيد الواقعي، بل ان ما يجري يناقضها بالكامل.
يقف لبنان اليوم امام أعلى ذرى الإنقسام الطائفي والمذهبي الذي يسيطر على الحياة العامة وعلى الحياة الخاصة الى حد بعيد. يتمثل ذلك في غياب مفهوم الوطن والوطنية، ومعه المشترك الذي تمثله الدولة بين اللبنانيين، وذلك لصالح الطوائف والعصبيات التي تجد كل واحدة منها أنّ الوطن يتحقق بمقدار ما تتحقق مصالح الطائفة وتسود على المستوى العام. تستثير الطائفة العصبية التي تختزنها وتشحنها بكل انواع التوتر، مستحضرةً الرمزيات والاساطير والخرافات لإثبات تفوقها، رافعةً خطابا مشحونا بالخطر الذي يتهددها من الطوائف الاخرى. واذا كان البلد يشهد اصطفافات طائفية منذ سنوات، إلاّ أنّ الانتخابات النيابية تشكل في العادة تصعيدا استثنائيا لهذه العصبيات، بحيث يصعب على المواطن ان يجد نفسه خارج إطارها أو بعيداً من خطابها.
إذا كانت العصبية الطائفية تشكل اليوم العنصر الرئيسي لصراع القوى السياسية السائدة، واذا كانت هذه العصبية تحشد اليوم من “الجماهير الغفيرة” ما يصعب تحشيده في مناسبات أخرى، فلا يعني أن هذا الاستنهاض الجماهيري دليل على الديموقراطية وعلى الاندفاع في ممارسة الحق في الإختيار والتمثيل. فـ”الظاهرة الجماهيرية” المرافقة للانتخابات، ليست ظاهرة صحية تصب في خدمة المصلحة الوطنية العامة، بمقدار ما تعبّر سلباً عن مستوى التعصب الطائفي الذي تعيشه “الشعوب اللبنانية” في مواجهة بعضها البعض. وفي الحالة اللبنانية الراهنة، يقود التعصب الطائفي الى طمس الشخصية الخاصة بالفرد، بل تصبح عواطف الجمهور الطائفي القاطرة التي تقود هذا الفرد وتخضعه لمنطق توجهها. هذه الروح الجماعية التي تبلور الجمهور الطائفي، تجعل الانسان الفرد يحس ويتحرك ويفكر بشكل مخالف تماما لما سيكون عليه لو كان فرداً معزولاً. تنطبق على حالة الجمهور الطائفي في لبنان ما كان الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون قد اشار اليه في كتابه الصادر أواخر القرن التاسع عشر بعنوان “علم نفس الجماهير”، حيث يشبّه “الجمهور النفسي، المحكوم بقوى اللاشعور الطاغية، بالانسان المنوّم مغناطيسيا. فبما ان حياة الدماغ تصبح مشلولة لدى الانسان المنوّم، فإنه يصبح عبداً لكل فاعلياته اللاواعية، ويصبح منوّمه قادراً على توجيهه الوجهة التي يشاء، بعدما غدت الشخصية الواعية مغمى عليها، وأصبحت إرادة التمييز والفهم ملغاة”.
ليس من الظلم وصف الحالة اللبنانية والتعصب الطائفي الذي يقود “الجماهير اللبنانية”، بما اورده غوستاف لوبون، فالمشهد اليومي لزعماء الطوائف يقدم من الادلة ما لا حصر له على استنهاض الطائفة وقيادتها بشكل غرائزي ضد الطوائف الأخرى والتخويف منها والتحريض على استعادة المواقع منها. فقائد “التيار الوطني الحر”، على سبيل المثال، لا يجد ما يقدمه من استثارة للجماهير المسيحية سوى التحريض على أنّ طائفة قد سلبت المسيحيين حقوقهم من خلال اتفاق الطائف، مما يستدعي حربا صليبية لاستعادتها، فلا يجد حرجا من ترداد تعابير “تحرير الاشرفية”. ولا يجد ممثلو الطائفة الشيعية أفضل من التهويل بسعي الطوائف الاخرى الى انتزاع مقوّمات قوة هذه الطائفة من خلال الغاء سلاح المقاومة الذي يشكل ضمان هيمنة الطائفة ومصدر قوتها. في السياق نفسه يجري استنهاض السنّة والدروز استنادا الى التهويل بأن الطوائف الأخرى تسعى لمصادرة موقعها وتحويلها مجدداً الى طوائف من الدرجة الثانية.
وتجد العصبية الطائفية في هذه الانتخابات احد تجلياتها في رفض اعطاء أي موقع لمن لا يندرج في الخانة الطائفية. وهذا أمر ينطوي على استبعاد ما عرف بالمستقلين نسبيا عن الاستقطابات الطائفية، وذلك لصالح فئوية صارخة تمارسها الطوائف جميعا من دون استثناء. ولعل أبرز التعبيرات عن هذه العصبية الطائفية ضد القوى الاخرى ما ناله الطرف الرئيسي من اليسار اللبناني في شأن اندراجه في لوائح المعارضة. سبق لهذا الطرف منذ سنوات ان مارس سياسة يمكن وصفها بالإلتحاق الكامل بأحد المعسكرات الطائفية في 8 آذار، وقدّم ولاءً سياسياً كاملاً بحيث بدا أنه قد أطاح “الموقع” السياسي والإجتماعي الذي مثّله تاريخياً، كما سلّم الموقف السياسي لهذا المعسكر بالكامل، بحيث ظهر “ملكيا أكثر من الملك”، وتلمّس الحصول على المقعد النيابي اقليمياً أيضاً، وذلك كله سعياً لحصاد ملموس في هذه الانتخابات، وبعدما استند الى وعود قاطعة. وعندما حان موعد “القطاف” تبيّن له أن ما يرمز اليه يمنع ادراجه في خانة المقبولين ضمن لوائح العصبيات الطائفية السائدة، فجرى تجاهله وتبخرت الوعود التي كانت قد قطعت له مقابل المواقف التي اتخذها.
ليس ظلما وصف الانتخابات النيابية اللبنانية الراهنة بأنها تمثل اكبر دلالة على “هدر الانسان” وفق تعبير الباحث في علم النفس مصطفى حجازي. لا قيمة للإنسان اللبناني في هذه الإنتخابات التي تمثل ذروة الإنكار لقيمته البشرية وكينونته المستقلة وحقوقه كمواطن فرد، فالكينونة تلحقه بها أسوةً بالقطيع ¶