صفحات مختارةياسين الحاج صالح

عن منظمات حقوق الإنسان والإيديولوجيا الحقوقية في سورية

null
ياسين الحاج صالح
ولدت منظمات حقوق الإنسان في سورية على أيدي ناشطين سياسيين يساريين سابقين. من تجاربهم الأصلية حمل هؤلاء شيئين متناقضين:
أولهما إرادة اجتناب العمل السياسي التي تولدت هي ذاتها عن التقاء خبرتين: الاعتقال السياسي الذي عانى منه أكثرهم، ثم تداعي الإيديولوجية الشيوعية التي تحدروا جميعا من تنويعاتها المحلية؛

وثانيهما نزوع تلقائي إلى حصر انتهاكات حقوق الإنسان بما قد يتعرض له ناشطون سياسيون على يد النظام.

وبينما قاد العنصر الأول من هذا الميراث المنظمات المعنية إلى تجنب ما من شأنه إثارة غضب السلطات قدر الإمكان، وأحيانا إلى علاقات ملتبسة مع أجهزة أمنية، جعلها العنصر الثاني عاجزة عن تبين انتهاكات أوسع وأشنع بكثير من تلك التي يتعرض لها ناشطون سياسيون. من هذه مثلا التعذيب الروتيني للموقوفين القضائيين على يد الشرط الجنائية أو أجهزة الأمن ذاتها (تتجاوز ولايتها القضايا الأمنية الصرفة وتشمل أنشطة يفترض أنها تقع في ولاية وزارة الداخلية)، ومنها أوضاع السجون البالغة السوء، ومنها أوضاع السكن العشوائي ومناطق «المخالفات»، وأحوال العاملين في القطاع غير المنظم، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية بعامة.

تبدو دعوة حقوق الإنسان في سورية وربما في البلاد العربية كلها دعوة نخبوية بصورة متأصلة. لا ترى انتهاكات إلا ما تتعرض له أوساط تشبه تلك التي انحدر منها ناشطوها. على سبيل المثال نالت الأوضاع السيئة لمعتقلي «إعلان دمشق» في سجن عدرا تغطية معقولة، وبالخصوص توزيعهم على مهاجع مكتظة بسجناء الحق العام (100 أو أكثر في مهجع مساحته لا تتجاوز 55 مترا مربعا)، تؤجر فيها الأسرّة بالمال. ولم تذكر أوضاع السجناء هؤلاء إلا كشيء ينبغي أن لا يعم المعتقلين السياسيين، رغم أن ما يتعرض له المعتقلون السياسيون أقل سوءا من شركائهم في المهاجع. يندر مثلا أن يتعرضوا لعقوبات جسدية، على شيوع هذه بخصوص السجناء الآخرين. والانضباط الذاتي المميز ومستوى الحياة الأعلى عموما والروابط الأسرية الأمتن غالبا، فضلا عن اهتمام إعلامي لا بأس به بأوضاعهم، يجعل السجناء السياسيين في وضع محمي نسبيا مما قد يصيب عموم المساجين، إن على أيدي بعضهم أو على أيدي إدارة السجن.

في واقع الأمر يشكل الناشطون السياسيون بعامة قطاعا مسودا من النخبة السياسية السائدة في سورية. وهم يحوزون على بعض امتيازات موقعهم النخبوي (اهتمام إعلامي ودفاع قانوني مجاني ورعاية من قبل زملائهم ورفاقهم…)، وإن نالهم بالمقابل غير قليل من غُرم هذا الموقع نفسه، أعني ما يترتب على كونهم منافسين سياسيين محتملين لنخبة النظام الحاكم (أحكام سجن تعسفية، حرمانات حقوقية متنوعة…). لذلك فإن النظر الحصري لأوضاع حقوق الإنسان من منظور أوضاع ناشطي المعارضة يعطي فكرة مشوهة عنها، بل من شأن النظر إلى الأوضاع العامة في سورية من منظور حقوق الإنسان التقليدي مضلل جدا. ونشتبه أن من أسباب هذا الوضع، فضلا عما ذكرنا فوق عن ميراث الناشطين الحقوقيين، ضرب من التمركز الغربي لمنظمات حقوق الإنسان العربية، إن لم يكن على المستوى المؤسسي فعلى المستوى الثقافي حتما. فالمنظمات هذه تستبطن مفهوما للإنسان وحقوقه تطور في الغرب الليبرالي، مفهوما يقلل من شأن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وقد يتوسل فكرة حقوق الإنسان كأداة إيديولوجية للنيل من الدول والكتل الدولية الخصم. هذا يوجه نظر الناشط الحقوقي نحو ضروب بعينها من الانتهاكات، تلك التي تقوم بها أجهزة قمعية، ويتعرض لها نشطاء سياسيون، يشيع الافتراض في الغرب أنهم «ليبراليون» لمجرد أنهم خصوم للنظم المحلية الحاكمة. هذا على المستوى الثقافي.

يضاف إلى ذلك في عدد غير قليل من الحالات ارتباط مؤسسي بمنظمات حقوقية دولية، بعضها مستقل، وغير قليل منها محترم، لكنها متشربة بمقاييس ومفاهيم عالمها السياسي والثقافي والحقوقي الخاص، الغربي. هناك على سبيل المثال صيغ شبه ثابتة للتقارير الحقوقية يحصل أن يجري تدريب ناشطين حقوقيين عليها. وهناك أحيانا ارتباط تمويلي. وهناك في أحيان أخرى ضرب من الرعاية من قبل إطار حقوقي دولي مكرس. وبمجملها توجه هذه الارتباطات النشاط الحقوقي المحلي وجهة نخبوية محابية لما هو قريب من «مجتمع النخبة» (بما في ذلك المعارضة المنظمة في هذا السياق). وهي كذلك تحكم على المقاربة الحقوقية بأن تكون إيديولوجية، لا ترى من الواقع إلا ما هو منظم ورسمي ومتكلم بلغة فصحى، بينما يقع العشوائي والهامشي والعامي وغير المنظم خارج ساحتها البصرية. وإنما لذلك قلنا إن من شأن النظر إلى أحوال السوريين من منظور حقوق الإنسان الذي يفترض مجتمعا منظما أن يكون مضللا جدا. يكفي القول مثلا أن 42 في المئة من السوريين يعتاشون من القطاع غير المنظم، أي خارج الدولة اقتصاديا واجتماعيا، وغير مرئيين سياسيا وثقافيا وحقوقيا.

بيد أن نخبوية النشاط العام في سورية قسرية، وليست اختيارا إلا بصورة عارضة. في أصلها ثمة الحجر السياسي النشط المضروب على المجتمع السوري ككل، وبالأخص تقطيع روابط نخبه المستقلة بأية قوى اجتماعية محتملة. ولهذا الحجر مفعول تجريدي، يوجه التفكير والنشاط العام تلقائيا نحو مقاربات مبنية على مبدأ «الحق الطبيعي» الذي انبنت عليه في الأصل فكرة حقوق الإنسان. في أوضاع أفضل قليلا تبرز فكرة المواطن ويطور الناشط العام مقاربات سياسية تطرح قضايا السلطة ونظام الحكم والمساواة السياسية، وهو ما مثل منطق عمل المعارضة السورية في السنوات الأخيرة. ونرجح أن الاستقلال السياسي للنشاط العام واستقرار مبدأ المواطنة يقترن باهتمام أوسع بالمسائل الاجتماعية والاقتصادية. على هذا النحو كانت تتابعت أجيال الحقوق العامة في أوروبا، المساواة الحقوقية في القرن 18، والمساواة السياسية في القرن 19، والمساواة الاجتماعية في القرن العشرين، حسب ت. هـ. مارشال. وفي غياب شرطها الموضوعي، أي استقرار المواطنة، فحضور الشاغل الاجتماعي الاقتصادي يبقى ذاتيا وإيديولوجيا، يقتصر مفعوله على تعريف المنظمات المعنية وتمييزها عن غيرها، أي يندرج في نصاب الهوية لا في نصاب العمل.

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى