صفحات سورية

حيوية المعارضة السورية: لابد من أدراك لطبيعة العمل السياسي

null
محي الدين قصار
“من قال هلك الناس فهو أهلكهم”
لا تفاجئُ الخبيرَ التفاعلات القائمة والأخبار المتتابعة التي تحملها لنا بيانات المعارضة السورية في الداخل.  من يفاجأ بمثل هذه الأخبار هو من اعتاد على ركود الحياة السياسية في سورية في سباتها الطويل،  فالأمر الطبيعي والصفة اللصيقة بالعمل السياسي التعددي هو التغيرات التكتيكية والمحاور التي يعاد صياغتها بشكل دائم ومستمر فنجد هنا تحالفاً بتم حينا ثم ينحل وهدنةً تُعلن هناك وثم تنتهي مدتها؛  ويرى البعض أن العمل مع الآخر أولوية تعلوا على الخلاف الفكري أو الشخصي بينما يحبذ آخر العزف المنفرد على العمل مع الجماعة.   وكل هذا وما يأتينا كل يوم من أخبار المعارضة يعكس بشكل رئيس حيوية مابعدها حيوية إن قارناها بالموت السريري التي عاشتها الحياة السياسية السورية ما يقارب من نصف قرن.  ومن لا يريد أن يصدق هذا فليراجع كم مرة عقدت الجبهة الوطنية أو الجبهة القومية اجتماعاتها خلال القرن المنصرم إن كان صح تسميتها بصورة من صور “المشاركة السياسية”.
الموت السريري للسياسة السورية: دولة من غير سياسيين:
ففي وطننا لم يبق لدينا من السياسيين أحد إلا في السجن أو المنفى (إلا من رحم ربي).  فالقوى التي بقيت على الساحة الرسمية بٌعيد وصول الأسد إلى الحكم في مطلع السبعينات سرعان ما تحولت إلى أحزاب متهدلة، وسرعان ما اُختزلت هذه الأحزاب بأشخاص،  فكما أصبحت الدولة هي الديكتاتور بات الحزب من هذه الأحزاب مختزلا بشخص رئيسه.  ولم يمض بعض الوقت حتى تقلص دور هذه الواجهة إلى أختامِ موافقةٍ تُدعى للتصديق على قرارات القيادات الأمنية كلما عصفت بهذه الأخيرة أزمة ما.  وتُركت لها بعض الهوامش من القرارات التي تغلب عليها الطابع التقني أكثر منه السياسي.  وأُشبع نهم هذه القيادات ومصالحها بأن القيت لها فتات موائد السلطة بصورة حقائب وزارية لا علاقة لها بالقرار السياسي، وكلها تخضع لأولوية القرار الأمني.  ولمن يشك في عجز هذه الأحزاب والواجهات “السياسية”  واضمحلال دورها ويظن أننا ظلمناها فيما نأخذه عليها في مطلع فقرتنا هذه نقول باستطاعتنا أن نعط لائحة طويلة من القرارات التي حكمت مصير الوطن ورهنت قواه الاقتصادية والسياسية لزمن طويل، فأين دور هذه الأحزاب (ندعوها بالأحزاب بما فيها حزب البعث مزاجا) عندما دفعت القيادة الأمنية بقواتنا المسلحة في لبنان لتحصد الحركة الوطنية اللبنانية؟ وأين دور هذه الأحزاب في قرار الوقوف مع إيران ضد العراق؟ وأين دورها في إرسال قواتنا المسلحة للمساهمة في تحرير الكويت وما كان دورها في انسحاب قواتنا المسلحة من لبنان؟  وأنا هنا لا أُقيّم هذه القرارات فهذا ليس غرض المقال، فهل البعث وباقي هذه الأحزاب شركاء بمثل هذه القرارات التاريخية؟  طبعا لائحة القرارات والمنعطفات التي ولجت بها قيادة القطر خلال العقود الماضيات كثيرة جدا ولكن أردت أن اعرض منها فقط ما هو الأسهل على العينين،  فلا حاجة للسؤال عن موقف هذه الأحزاب من المواجهة العنيفة التي تبنتها السلطة مع قطاع كبير من معارضيها سواء في مطلع السبعينات أم في الثمانينات، أو قدرة هذه الأحزاب على تقديم تقييم موضوعي ورقابي على الأداء ونتائج السياسات الاقتصادية للسلطة وما هنالك من قرارات استفردت بها السلطة الأسدية دون أي مرجعية سياسية وشعبية.
فمن هنا يبات من الصعب علينا أن نقرر أن هناك حياة سياسية حقيقية في الوطن، ما لدينا هو مجموعة أمنية تتسلط على القرار السياسي وتجيره لمصالحها بالكامل وتستعين بجيش من التكنوقراط الإداريين الذين يساعدونها بمهارتهم الفنية في إدارة البلاد وتنفيذ سياسة القيادة الأمنية.
ما يجري في صفوف المعارضة أمر سليم وصحي:
لذلك يبرز ربيع دمشق كضربة ساحرة جمعت فيها مخضمرينا من السياسيين الذين غيبهم النظام وأعتقد واهما أنه تمكن من قتلهم كرياض الترك وأمثاله والجيل الجديد الذي تبنى حركة المجتمع المدني.  وأثبتت أنه ما زال هناك سياسيين في القطر وأن الأمة قادرة على تقديم المزيد.  ثم ما نتج عن هذا الربيع من المؤسسين لإعلان دمشق وما تلاه من تأسيس للمجلس الوطني للتغير الديمقراطي.  واعتقاد النظام بأن اعتقال قياداته الداخلية سيمكنه من وأده.  فعوضا عن أن يختفي يجد المجلس اليوم امتدادا دوليا له يؤكد أن كفاح التغيير الديمقراطي لن تنتهي إلا مع اقامة دولة ديمقراطية تمثل كل السوريين.
وعلى الصعيد الخارجي  نستطيع أيضا أن نرى الحراك السياسي الحيوي السوري قد تمثل بسرعة والمرونة التي تلقف فيها الأخوان المسلمون قرائتهم للشارع السوري ومتطلبات المرحلة المفروضة عليهم فقاموا بمراجعة داخلية لمسيرة عملهم وتقديم تصور أكثر مرونة وأقرب علمانية مما كان يتوقعه الجميع. بل أن تنازلاتهم تجاوزت في بعض النقاط مطالب أندادهم في صفوف المعارضة العلمانية.
ويأت تأسيس جبهة الخلاص الوطني بين بعض أطياف المعارضة السورية التي تمحورت حول الثنائي خدام والإخوان في تلك اللحظة  مؤشرا جديدا على حيوية الفكر المرن عند السياسي السوري المعارض.  فأكدت أن المعارض السوري قادر على وضع هم الحرية والتحول الديمقراطي لشعبنا فوق كل الهموم الأخرى. فعلينا أن لا ننسى ما فعله نظامٌ خدمه عبد الحليم خدام ما يزيد عن ثلاثين سنة بالأخوان وأن لا ننسى أن جناحا من الأخوان كان متهما بوضع طلقتين في صدر خدام في محاولة إغتيال له في مطلع الثمانينات.  فرغم هذا أتت جبهة الخلاص لتؤكد أن الحرية أعلى من هذه الخلافات.  وحتى اليوم فإن انفصال الإخوان عن الجبهة يجب أن لا يرى على أنه ضربة للمعارضة السورية.  فطالما أن هذا الإنفصال لا يؤدي إلى مواجهة ما بين الطرفين فإنه يأتي ضمن طبيعة العمل السياسي ومتطلباته التي تتغير في كل لحظة.   فمن يرى سلبا في هذا الحراك فإنه يغيب عنه طبيعة العمل السياسي الحر،  فهو يقارن ما يجري في صفوف المعارضة مع ما يجري في صفوف النظام،  فهل يجرؤ أحد أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية الحاكمة في سورية أن يخرج عن البعث ويعتزل السلطة بسب أو آخر ويأمن بعدها على كيانه أو قاداته.  فاستقلال فلان من المعارضة أو انسحاب حزب من الجبهة لايمكن أن يرى بنفس العين وبنفس السلبية.  فلا ننسى أن الإئتلافات والأحلاف السياسية قبل كل شئ  لها هدف أو أهداف محددة قد تستنفذ في مرحلة معينة وقد تبدوا أهدافا مرحلية أخرى أكثر أهمية.
المعارضة السورية ليست بالضعيفة:
وأنا هنا لا أحاول أن أتخذ موقفا من أحد او مع أحد ولكن أحببت أن لا نحمل المعارضة السورية آفات النظام وأن لا نقتل المعارضة عن طريق تأليهها.  فالنظام يكرر بشكل دائم أن “المعارضة السورية” ضعيفة وقد كررها على لسان بشار في أكثر من مناسبة.  فاللذين يتهمون المعارضة السورية بالضعف من أزلام النظام يريدون تأكيد فكرة “العجز المكتسب” لدى الجماهير وبأنها لا حل لهذه الجماهير إلا بوجود الديكتاتور.  أما الذين يتهمونها بالضعف من باب الخوف عليها فلحسن نيتهم في أحسن الأحوال ولطلبهم الكمال حيث لا كمال إلا لله.  فما “يُعجَزُ عن جله (بعضه) لا يترك كله.” فقد اعتادوا على أن هناك قرارا واحدا وسلوكا واحدا ورئيسا واحدا وما هنالك من “آحاد” فرضها النظام عليهم وما زال الكثيرون رغم ولعهم وجهادهم من أجل التعددية يجدون صعوبة في تبنيها في حياتهم اليومية وسلوكهم المعارض.  ورغم هذا نقول لهم لا بأس عليكم،  فهذه الأمور لا يمكن أن تحقق وأن تهضم وتتحول إلى سلوك حياةٍ في ليلة وضحاها.  ما يهمني هو جهدكم للوصول إلى روح التعددية هذا أكثر من الوصول لها.  فطالما سعينا للوصول لها وحاولنا أن نعلوا على مصاعب توفر الرأي والرأي الآخر فلانجعله أداةً لوأد مشاريعنا فنحن أقوياء.
وكثيرا من الأحيان ما يقتل الفكرة رغبة حاملها بحمايتها.  فكلنا يتمنى أن نعلن بيانا في المعارضة تنزل الملايين له إلى الشارع.  وهذه اللحظة لن تكون بعيدة بإذن الله.  ولكن عدم قدرتنا على هذا اليوم لا يعني نهاية كفاحنا.  فهل من العدل أن نطالب المعارضة بهذا.  بل أنا أتحدى أن يقل لي أي بعثي شريف أنه قادر على إنزال المخلصين البعثيين الشرفاء إلى الشارع السوري في مظاهرة مناهضة لمصالح القيادات الأمنية ومطالبة بمصالح الطبقة الكادحة.  فإن كان هذا عجز البعث الذي يركبه النظام ـ ولننسى قدرة أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية السبعة على مثل هذا الفعل-  فهل من العدل أن نطالب معارضة زجت قياداتها في غياهب السجون أو بعثرت في منفاها في الأرض أن تقوم بكل هذا وبلمحة بصر.  إن هناك سنن وأسباب يجب أن تتبع وتتقدم خلال الزمان والمكان.  ولا بد لنا من أخذ كل هذا بعين الإعتبار قبل أن ندعي بضعف المعارضة وقبل أن نتراكض لنعلن وفاتها مع كل بيان يصدر عنها.
والمعارضة السورية ليست مفهوم مبهم معلق في السماء، فهي تتمثل برجالها ونسائها؛  فأيهما أقوى سلطة الدولة التي  تجد في سفر رجل في السبعينات من عمره طلبا للعلاج في الخارج تهديدا لوجودها أم هذا المريض (رياض سيف) الذي يقفز من إجتماع محظور إلى آخر رغم مرضه وعمره و كل الرقابات عليه،  وهل دولة تهددها امرأة طبيبة (فداء حوراني) همها في الحياة أن تنقذ الحياة في عملها اليومي وأن تهب الحياة كأم أقوى أم سلطة الدكتاتور.  لقد قامت الدنيا ولم تقعد على مثقفي سورية لأنهم اجتمعوا مع مثقفي لبنان الشقيق وقرروا أن لا يسمحوا لخلافات القيادات الأمنية بين البلدين أن تقطع وشائج القربى وصلة الرحم بين الشعبين الشقيقين.  فمن هو الأقوى سلطة تهددها حفنة من المثقفين أم حفنة من المثقفين الذين لا يبالون بزنازين الديكتاتور وسياطه.  خلال لقاء الرئيس السابق جيمي كارتر مع بشار الأسد أجاب الأسد على سؤال كارتر عن قيادة المجلس الوطني المعتقلة ظلما وعدوانا برئاسة الدكتورة فداء الحوراني بقوله أن هؤلاء أخطؤا وأنه (الأسد) مستعد ان ينظر في أمرهم إذا طلبوا استعطافا واعترفوا بخطأهم.  فبالله عليك قل لي من هو الضعيف هنا هل هو الدكتاتور الذي يخاف اجتماع لفيف من شعبه مهما صغر أم هذه القيادة المعارضة التي تصر على حقها ولو كلفها ذلك استمرار اعتقالها.
بل أسمحوا لي أن أدعي صادقا بأن المعارضة السورية الشريفة كانت أقوة من كل قوات الأمن التي تحمي النظام وكل طوابير دبلوماسيه وموظفيه الذين رقصوا لسنوات كدجاج مقطوع الراسي في واشنطن العاصمة وهم يستجدون عطف إدارة الرئيس بوش بأن لا يرسل دباباته إلى دمشق.  وأنا أستطيع أن أحدد باليوم واللحظة التي سقطت فيها خطة السير إلى دمشق بعد أن احتلت بغداد الحبيبة.  فقد كان هناك دَعيٌّ يقدم نفسه للإدارة الأمريكية كممثل للمعارضة السورية ويحاول أن يلعب دورا مثيل لدور “جلبي” العراق.  فتداعت قوى المعارضة لإجتماع في واشنطن العاصمة حضره من بين من حضر مساعد وزير الدفاع الأمريكي ومهندس احتلال العراق.  فتمخض عن الإجتماع تحويل الـ”دَّعيِّ” إلى أقلية وعزله عن القرار النهائي والإصرار على رفض كل تدخل عسكري أجنبي في سورية.  خرج بعدها مساعد وزير الدفاع الأمريكي يلعن المعارضة السورية ويصفها بأبشع النعوت بعد أن وجد أن رجله الذي يعتمد عليه لا أساس له في المعارضة السورية.  فأيهما أقوى تلك المعارضة التي تحمل الرؤى السليمة والأولويات الحقيقية لمصالح الوطن أم طابور دعاة النظام الذين كانوا يعرضون وعلنا على شاشات التلفزة الأمريكية كل ما هو غال من الوطن بداية من العراق إلى فلسطين مرورا بلبنان بشرط بقاء النظام ومنحه القبول والإعتراف.
أنني على قناعة أن المعارضة السورية أقوى مما يتوقعه الكثير بل هي أقوى من النظام ولكن ما يحكم قوتنا هي مصلحة بلدنا العليا وتكاليف الحرية على شعبنا وقد يخيل للبعض بأن النظام قوي ولكن مصدر قوته الوحيد هو أذدراءه يكل تكاليف حفاظه على سلطته؛ فهو يضحي كل شئ في الوطن ليحافظ على ذاته بينما تضحي المعارضة بذاتها لتحافظ على الوطن.
لذلك أقول لجميع صحفيينا وكتابنا ومنظرينا غيرهم أنظرونا وأعدلوا فينا يرحمكم الله ولا تحملونا ما لا يستحق علينا. فكلماتكم لها رجع سلبي وقوي على شرائح من جماهيرنا.  وأقول لبعض المعارضين فينا، دعونا نحمي أنفسنا من أن يكون طلبنا للكمال سببا في فشلنا أو تقاعسنا.  ودعونا نسعى جهدنا من أن نقع في خدمة الدكتاتور بحسن نيتنا. وأهم ما يجب أن نذكر أنه يجب أن “لاتقول العرب بأن محمدا يقتل أتباعه.”
•        بروفسور وإقتصادي عربي مقيم في شيكاغو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى