صفحات سورية

سورية: المشروع الوطني هو الحل

null
د. عبد الباسط سيدا
ما يستشف من معالم الحملة المركزة التي تشنها السلطات السورية هذه الأيام على الكرد السوريين هو إصرارها على إخراج هؤلاء من المعادلة السياسية الوطنية السورية بعد ظهور جملة علائم تؤكد أن الأرضية باتت ممهدة إلى حدٍ ما لتواصل وطني بين المكوّنات السورية عامة، والمكوّنين العربي والكردي على وجه التخصيص في سياق العمل المعارض؛ لا سيما بعد سلسلة من الاعتصام الشعبية المشتركة، وعبر حالات التضامن من خلال الحضور المشترك لجلسات المحاكمات الشكلية الكثيرة التي جرت وتجري بحق المعارضين السوريين على اختلاف انتماءاتهم. كما أن اللقاءات المتواصلة بين المعارضين السوريين العرب والكرد، سواء ضمن الأطر التنظيمية مثل إعلان دمشق وغيره، أم ضمن الندوات والنشاطات الأخرى في الداخل السوري وخارجه؛ كل ذلك يثير مخاوف السلطة التي أمسكت بزمام الأمور، وتمكّنت من الاستمرار على مدى عقود بفضل التزام مقتضيات سياسة فرّق تسد على المستوى الوطني. هذا ومن الجدير بالذكر هنا هو أن أكثر ما يثير مخاوف السلطة السورية فيما يتصل بالكرد هو دورهم اللافت المتنامي في إطار الحراك الوطني، وذلك نتيجة فاعلية الوعي السياسي الذي يتسم به المجتمع الكردي السوري، خاصة في الأوساط الشبابية التي تؤكد حضورها القوي في مختلف النشاطات الجماهيرية المطلبية التي تستهدف إبراز بعض جوانب الغبن السافر الشمولي الذي يتعرض له الشعب الكردي في سورية.
إننا إذا ما عدنا إلى الوراء قليلاً، وذلك من باب اجراء مراجعة عامة سريعة للآليات التي اعتمدتها السلطات السورية منذ عام 1970 على الأقل، وهو العام الذي استلم فيه الأسد الأب مقاليد السلطة بالقوة من دون غيرها، ليمهد لاحقاً لتسليم الأمور إلى الأسد الابن بموجب عملية توريثية مكشوفة، لم تتمكن كل الرتوش التزيينية من إخفاء نتواءاتها وتجاعيدها؛ فتولت الأجهزة الأمنية تنفيذ المهمة، إذ كتمت الأفواه عبر التهديد والوعيد. اغتالت واعتقلت، وأفهمت الأغلبية الصامتة -عن حكمة في بعض الأحيان، وخشية في معظم الأحايين- أن مسألة السلطة هي بالنسبة إلى مجموعة القرار في سورية مسألة حياة أو موت. إننا بالعودة إلى المرحلة المعنية كما أسلفنا، سنجد كيف أن الأسد الأب اعتمد سياسة شراء الذمم عن طريق الإشراك الشكلي للقوى السياسية السورية المعارضة في السلطة؛ وأفلح في تشكيل “الجبهة الوطنية التقدمية” التي ضمت العديد من الأحزاب السياسية السورية، إلى جانب حزب البعث، لتكون بذلك – من الناحية النظرية- المرجعية السياسية العليا على الصعيد الوطني؛ إلا أنه في الميدان العملي لم يكن حزب البعث نفسه سوى الواجهة للتستر على عملية الانقضاض التي تعرض لها المشروع الوطني السوري؛ فكانت الشعارات القوموية البعثية بالنسبة إلى السلطة المعنية خير أداة لتعمية وتزييف وعي المواطنين السوريين من ذوي الميول القومية العربية؛ تماماً مثلما كانت الشعارات الأممية الكبرى التي كان الحزب الشيوعي السوري في ذلك الحين يلتحف بها، ويتخذها مسوغاً يبرر له مشاركته الصورية في السلطة، وابتعاده عن العمل المعارض على المستوى الوطني. فقد تمكنت السلطة بفضل الشعارات المعنية من استقطاب قسم كبير من المواطنين السوريين من ذوي الميول اليسارية؛ وبقيت العقبة الكأداء المتمثلة في جماعة الإخوان المسلمين التي لم تتمكن السلطة لأسباب عدة من احتوائها، فكان قرار المواجهة الذي أدى إلى الكثير من التبعات المأساوية على المستوى الإنساني؛ وتسبب في شروخات كبرى يعاني منها الجسم الوطني السوري؛ شروخات لا يمكن معالجتها بالقوة أو الوعود الهلامية، بل بالإرادة الوطنية الجادة التي تبغي بالفعل الوصول إلى حلول واقعية لمختلف المشكلات.
صحيح أن مواجهات الثمانينات قد أطلقت يد النظام في الداخل السوري دولة ومجتمعاً؛ وصحيح أن سورية قد شهدت منذ السبعينات وحتى يومنا الراهن حالة استقرار سياسي طالما تشدق ويتشدق بها النظام الحاكم؛ لكن التمعن الأولي في الاستقرار المعني يبين لنا أنه مجرد ركود سياسي، ناجم عن تحكم أمني صارم بمختلف مفاصل المجتمع السوري؛ بل لعلنا لا نقع في أحضان المبالغة إذا ما ذهبنا إلى أن التحكم المشار إليه يمتد حتى إلى الحياة الخاصة للأفراد؛ يعين لهم أرزاقهم وأفكارهم، وربما أحلامهم. ومثل هذا الركود -الذي يتماهى مع السائد راهناً في كوريا الشمالية، ومع الذي شهدته ألبانيا في عهد أنور خوجا أو اسبانيا في عهد فرانكو- إنما هو ركود مكلف، يستنزف الطاقات من قبل أجهزة أمنية متداخلة لا حصر لأعدادها ومهامها؛ ولا توجد أية إمكانية لمحاسبتها أو مساءلتها. كما أنه ركود يقتل المبادرات، ويسطّح العقول، ويدفع بالمغامرين المبدعين من عشاق الوطن إلى الانكفاء على الذات، أو النزوح إلى بلاد الناس. وإلى جانب هذا وذاك، يؤدي الركود المعني بالاقتصاد السوري إلى الانكماش والتخلف عن الركب، وذلك وفق المقاييس العالمية التي لابد لأي مجتمع معاصر أن يوليها العناية القصوى. فلا استثمارات جادة في سورية، وكل ما يتم لا يخرج عن النطاق الخدمي الاستهلاكي الذي يكون عادة بالتشارك مع الأمراء غير المعلنين من أركان السلطة الحاكمة؛ وبالتوافق مع ما سلف، نرى أن الفقر- أو بتعبير أدق الإفقار- هو المشروع الاقتصادي الأكثر رواجاً في سورية.
وبالعودة إلى الموضوع الذي بدأنا به بعد هذا العرض السريع لجانب من الماضي القريب، يبدو لنا أن السلطة الراهنة تعتمد الوصفة إياها التي جربتها سلطة الأسد الأب؛ فهي تعتقد بأنها قد تمكنت – على الأقل في الوقت الحالي- من بعثرة طاقات الجهد المعارض باعتقال أبرز النشطاء السوريين العرب، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: رياض سيف، كمال اللبواني، فداء الحوارني، ميشيل كيلو- علي العبدالله.. وغيرهم الكثير، ولم يعد أمامها سوى المعارضة الكردية التي باتت تمثل خطراً بتحولها إلى محرك وطني سوري، يؤكد أن الكرد في سورية هم مكوّن أساسي من المكوّنات السورية. وأن المسألة الكردية في سورية تحل ضمن إطار المشروع الوطني السوري؛ هذا المشروع الذي من شأنه توظيف الانتماءات المجتمعية السورية لصالح سورية أولاً، وليس العكس, فالانتماء العربي أو الكردي أو السرياني، الإسلامي أو المسيحي، السني أو العلوي أو الشيعي أو الدرزي… الخ كل هذه الانتماءات وربما غيرها لا تشكل خطراً أو تهديداً، بل تمثل جملة حوافز وإمكانيات إذا ما اعتمدنا المشروع الوطني السوري أولاً، وتمكّنا من استثمار جسور التواصل مع المحيط الإقليمي، العربي والكردي والإسلامي والدولي لصالح سورية؛ هذا في حين أن الكارثة تبرز حينما تستغل الشعارات الكبرى من قومومية أو اسلاموية للإطباق على الداخل الوطني لصالح زمرة تختزل الوطن وأهله في ذاتها، تقيس كل الأمور وفق مصالحها؛ تفبرك التهم جزافاً؛ تلوي عنق حقائق التاريخ والجغرافيا؛ تثير النزعات العصبوية بمسمياتها كافة؛ تعرض خدماتها بسخاء على الخارج لتستقوي به على الداخل. وهي اليوم تستغل الانفتاح النسبي المشروط عليها من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة لتصفية الحساب مع العامل الكردي الوطني؛ الأمر الذي يدفع بالمرء من باب التداعي إلى تذكر ما فعلته سلطة الأسد الأب بالجنرال عون في لبنان عام 1991، وذلك عشية انضمامها إلى التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في حرب تحرير الكويت. فالسلطة لا تريد للعامل الكردي أن يتحول إلى فاعل وطني سوري محرك؛ بل تريده “كردستانياً” يرنو نحو الشمال أو الشرق، يتحين الفرصة للعودة إلى “موطنه الأصلي”؛ والطامة الكبرى فيما يتصل بهذا الموضوع تتمثل في تمكن السلطة من تقويل مزاعمها في وقت ما على ألسنة كردية، دفعتها ظروفها في ذلك الحين إلى ترديد مزاعم بائسة كان أصحابها يدركون قبل غيرهم مدى تهافتها وبطلانها.
والمفارقة هنا تتشخص في أن السلطة المعنية كانت، وما زالت، تمنع الكرد السوريين من المطالبة بحقهم في المواطنة الكاملة، واحترام خصوصيتهم القومية ضمن الإطار الوطني السوري؛ لكنها في المقابل كانت تشجع الكردي الآخر، وتدعمه لوجستياً وسياسياً وإعلاميا ليطالب بكردستان الكبرى؛ ومن جهة ثالثة كانت وما زالت تعقد الاجتماعات الأمنية الدورية مع الدول التي تقتسم كردستان، للعمل معاً من أجل كبح النزوع الكردي المشروع نحو الخلاص من الظلم والحصول على الحقوق. وهي بذلك تحقق جملة أهداف دفعة واحدة؛ فهي من ناحية تصادر على أية إمكانية للدور الكردي في المشروع الوطني السوري المنشود؛ وتستغل من ناحية ثانية الخطر الكردي المزعوم في عملية بث هواجس الشك والتوجس بين مكونات المجتمع السوري، خاصة بين العرب والكرد؛ الأمر الذي يمكنها – من ناحية ثالثة- من تسويق ذاتها بوصفها المدافع الأمين عن المصالح القومية العليا؛ في حين أن الوقائع على الأرض تؤكد سواء في لبنان أم في العراق أو فلسطين، وحتى في مصر وربما في غيرها، أن الشعارات القوموية للسلطة هي مجرد عباءة تُستخدم للتستر على ديمومة جهودها السلبية في الميدان الوطني. ومن هنا تأتي حملتها المركزة على الكرد هذه الأيام، هذه الحملة التي تتجسد في الاعتقالات المتواصلة، وأحكام السجن القاسية التي صدرت بحق النشطاء الكرد من سياسيين ومثقفين ومهنيين، إلى جانب إجراءات النقل التعسفي للموظفين الكرد، والتضييق على المناطق الكردية التي تعاني أصلاً من الانهماك بفعل الإهمال والنهب المبرمجين.
لكن الذي ينبغي تأكيده هنا هو أن الاعتقالات لن ترهب الكرد الذين لم تفرغ منهم السجون السورية منذ الستينات؛ كما أن الإجراءات الاضطهادية العنصرية بامتياز لن تسلبهم إرادة المطالبة بالحق المشروع الذي يظل دائماً أقوى من أي سلاح. المهم في الموضوع هو ألا يفقد الكرد خاصة والسوريون عامة بوصلة الاتجاه الصحيح، الاتجاه الذي يؤدي إلى المشروع الوطني السوري العام الذي يجمع الكل على قاعدة احترام الخصوصيات في إطار الوحدة الوطنية. ومشروع كهذا لن تتبلور معالمه ما لم نتحرر من المنظومة المفهومية الديماغوجية السلطوية، ونقطع مع نزعات التطرف والانعزال والتبعية؛ ونقرر معاً أن سورية العزيزة الحرة الكريمة المتفاعلة ايجابياً مع المحيطين الإقليمي والدولي، مع العالمين العربي والإسلامي، هي لكل أبنائها.
كاتب كردي سوري – السويد
أخبار الشرق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى