أوباما الساركوزوي لا الفولتيري
رستم محمود
هما يدا أوباما وسحرهما، ما دفعا الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز لإعادة سفير بلاده إلى واشنطن، بعد المصافحة الشهيرة بين الرئيسين، في مؤتمر القمة الأميركية الأخيرة في ترينيناد توباغو. هل كان سحر يدي أوباما هو السر؟ أم كانت سعة صدر شافيز وطيبته؟! في مسامحته وعفوه عن أنداده الأميركيين، الذين، لم يوفر لحظة، في نعته لهم بالإمبرياليين والمستكبرين ومصاصي دماء الفقراء وحكام النظام الطاغي… الخ. وبذلك هل كانت يدا السيد أوباما هما ما أبطلا عن الإمبراطورية الأميركية نعوتها تلك، أم أن سعة قلب الرئيس شافيز وطيبته مسحت عن المستكبرة الأميركية طبيعتها تلك. حيث كان الرئيس شافيز قد عدّ غسلها لنفسها، من تسلطها ومن استكبارها، شرطاً واجباً ولازماً، لإعادة سفيره إلى واشنطن.
على الطرف الآخر من صخرة العالم، كان صديقه ورفيق نضاله، الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، يخطب في يوم الجيش الإيراني، ويسمي أميركا باسمها الأصيل، اسمها المحفوظ منمقاً في معجم الأطلس الجغرافي، لا اسمها أو أسماؤها التي جادت بها قريحة شعراء الأنظمة “المتصدية” للإمبريالية الأميركانية. بل زاد الرئيس نجاد عن وده ذاك، بمسحة إنسانية بالغة، حينما دعا إلى مشاركة الأمة الإيرانية في إدارة العالم، معتبرا ذلك الشكل المثالي للتعبير عن الحضور “الحضاري! ” للأمة. حيث لأول مرة، لم يُزل إسرائيل من الوجود في خطابه، ولم يهزم أساطين الغزاة في بحر الخليج “الفارسي”، وطالب في خطابه بتأمين جميع الحقوق القانونية للصحافية الأميركية صابري، ذات الحسب إيراني، والتي حكمت بثماني سنوات سجناً، بعد اتهامها بالتجسس. بالمجمل، لو حضر أحد سكان المريخ خطاب نجاد ذاك، لأعتقد أن العالم يمضي لحظاته دونما دولة تسمى أميركا، أو أن أميركا تلك دولة من دول الموز ليس إلا. فلا شتائم ولا تهديد ولا وعيد لها، ولا برسم ومن حالفها، كما كانت الحال دوما مع خطب السيد نجاد.
ثمة ثلاثة تحليلات لا رابع لهم، لتفسير الانقلاب الذي أصاب دول التصدي، في فهم وتقبل الدولة الأميركية. فإما أن الولايات المتحدة تركت كل رغباتها وأظافرها ومصالحها، وباتت سويسرا كوكب الأرض، وهو تفسير لا عقلاني يفوق لاعقلانية النظام الليبي، وإما أن الولايات المتحدة مازالت على عهد سماتها السابقة، وأنها لم تكف، ولو للحظة واحدة، عن صلفها ذاك، وأن الآخرين ـ دول التصدي ـ قد غيروا من رؤيتهم للولايات المتحدة. وبذا يجب أن يحول السيدان نجاد وشافيز إلى محاكم مصلحة النظام في بلديهما؛ أما التفسير الثالث، فيتمثل بأن وراء الأكمة ما ورائها.
وراء الأكمة.
ليس من الصدف أن تكون كل الأنظمة التي تدعي تكريس ذواتها، وذوات مواطنيها، للمهام الثورية الكبرى، في التصدي لحيتان الساحة الدولية المفترضين، أنها نفسها الدول التي تفتقد إلى أية شرعية داخلية. فما الذي يجمع كوريا الشمالية ذات العشرين مليون جائع بكوبا التي كانت ظلت تمنع تداول الهواتف الخلوية حتى الى ما قبل ستة أشهر بقليل. وما الذي يجمعهما بليبيا وإيران حيث النظامان العبقريان في تضييع ثروة أمتيهما، ما الذي يجمع كل هؤلاء، غير الاستبداد الداخلي، ودعوة التصدي للإمبريالية الأميركية. وأن الثانية ما هي سوى حجة واهية للتغطية على الأولى والاستحواذ على شرعية ما، وبأي ثمن. وكل ذلك مطعم بآلية أميركية وحشية في استغلال استبداد الأنظمة لشعوبها، وفي تحويل الاستبداد ذاك وتناوله، إلى آلية ذكية للابتزاز السياسي لضبط علاقة “الخضوع” مع تلك الأنظمة.
ثمة البراغماتية، وشبهة في التواطؤ بين الطرفين. فالدول المتصدية لها من الحكمة ما يمسح عن أميركا كل أدرانها، لو أن هذه الأخيرة تغاضت عن ممارستها بحق شعوبها، ورعت مصالحها الإقليمية المباشرة، بحق جيرانها الأضعف والأسهل منالاً. ولأميركا أن تتغاضى عن روحها التحريرية مقابل مصالحها المادية الآنية. لذا فإن المسألة تحوي كموناً عالياً من تحول أميركا إلى نقيضها في لحظات. أن تتحول إلى حمل في عين أعدائها، ودولة ساركوزية في عين نفسها.
في مؤتمر صحافي للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، أقيم في إحدى الدول التي لها سجل حميد في حقوق الإنسان، سئل ساركوزي عن تناوله لشأن حقوق الإنسان مع ضيفته. فردّ أن لكل بلد ثقافته في هذا المجال.
يا له من اعتداء على المبادئ العليا الثلاثة للثورة الفرنسية…يا للأميركية حين تبدو ساركوزية… بعدما أن كان السيد أوباما قد وعد بأن يكون الابن البار لثورات عصر النهضة.