الدين..ذلك الهوس المُعولم
سعيد ناشيد
“الإسلام هو الحلّ”: هكذا يقول البرنامج الانتخابيّ للإخوان المسلمين. ومن سوء طالعهم، فليسوا وحدهم من يرون في ديانتهم حلاّ لجميع مشاكل التاريخ والجغرافية. آخرون رفعوا سقف المزايدة.
“المسيحية وحدها تقدّم طريقاً للحياة مع إعطاء جواب على كلّ الأحداث التي تواجهنا في الأرض”:هكذا يصرح توم ديلاي، رئيس الجمهوريين في مجلس النواب الأمريكي عام 2002 1.
“الدين يمكن أن يساعد الجمهورية”، هكذا يتحدّث الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي 2.
“يسُوع المسيح: هو الذي أنقذ حياتي”، هكذا يعترف الرئيس الأمريكي جورج دابليو بوش3.
“ليس لنا من ملك آخر غير يسوع”، هكذا يعبّر وزير العدل الأمريكي الأسبق، جون آشكروفت4.
“حين ألقي دروسي في فصولي عن الإنجيل، أحاول أن أشرح جوهر إيماني وأن ألهم المستمعين أن يربطوا المسيحية بحياتهم الخاصة”5، هكذا يتحدّث الرئيس الأمريكي الأسبق، جيمي كارتر، في إحدى مؤلفاته.
“أحلم بأن تتمكّن العقيدة من أن تحمل المعنى والقيم إلى العولمة”، هكذا يُعلن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، في إحدى محاضراته6.
“أنا أومن بقوّة الصّلاة”: هكذا هو الشعار الذي كتب على أحد ملصقات الحملة التمهيدية لفائدة باراك أوباما من أجل اختياره مرشّحاً للحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية.
“نحن نؤمن بالله”، هذا ما كتب على أحد جدران مجلس النواب الأمريكي.
بابُ المزاد مفتوحٌ، وسقف المُزايدة قابل للارتفاع، الجميع في سباق محموم نحو الله، الجميع يتسابقون لكي يدفعوا الثمن الأخير، المنافسة محمومة، فالله لا يتكفّل بنجاة الجميع، وإلاّ لما كان هناك مَعنى للخلاص الديني.
الخلاص الديني مُواجهة مَفتوحة يخوضها البعض ضدّ البعض والجميع ضدّ الجميع، لا بدّ من شعب مختار، وبالمقابل لا بدّ من وجود شعوبٍ غير مختارة، لا بدّ من جماعة ناجية، بمعنى أن هناك بالضرورة، جماعات لا نصيب لها من النجاة؛ هذا عين العدل الإلهي، لا مَناص للغرقى من المنافسة حول يد الله الممدودة لغير الجميع، فالخلاص هنا لا يقبل التوزيع العادل أو التسوية المُنصفة. إنك في حروب الله إما أن تكون مع الله أو يكون الله مع الآخرين، إمّا أن تنجو أنت أو ينجو الآخرون، الخلاص الإلهي لا يعترف بأيّ شكل من أشكال القسمة العادلة بين الناس، لذلك يرتفع سقف المُزايدة الدينية، يزداد ارتفاعاً، يتجاوز كلّ قدرات المزايدين على المزايدة، ترتفع التكلفة، وساعة الطوفان يَغرق الجميع، لا ينجو أحد، ووحدهم المتطرّفون الدينيون من يقدرون على تحمّل التكلفة الأخلاقية لتبرير خسارة تفني الجميع. لكنّ، ألم تكن المزايدة تنذر بالخسران منذ البداية؟
لا يترك سادة العالم دليلاً شاردًا أو واردًا، إلاّ واستدّلوا به على أنّ الدين هو أمّ الحاجات والغاية القصوى للحياة، ومن ثمّة يجعلون الأديان تبدو وكأنها أحد أهمّ حقوق الإنسان، وكأنها ضرورة وجودية من ضرورات حياة الأفراد والجماعات، إنهم ينظرون إلى الدين باعتباره المُستودع الأوّل والأخير، لمعنى الحياة، ومن ثمّة يرونه الملاذ الآمن لأمن الأوطان ودوام العمران، وفي كل مناسبة يردّدون، بأنّ مؤسّسات الدّولة الحديثة، والمؤسّسات الدّولية أيضاً، عليهما منذ الآن، أن تأخذا هذه الحقيقة بعين الحسبان.
عالم اليوم غير عالم الأمس، عالم اليوم تبدّلت مشاهده واختلفت صوره، اختفت عناوين وبرزت أخرى، انهارت شعارات وطفت على السطح شعارات مختلفة، تغيّرت الأولويات، ما كان منتظراً صار متعذراً، وما كان مُمتنعاً أصبح متاحاً، اختلطت العصور بالعصور وتداخلت الأزمنة بالأزمنة، فجميع الذي مضى وانقضى يعود اليوم ليطلّ علينا، وبكلّ كبريائه، من أعلى شرفات الحداثة أو ما بعدها، كلّ ما تركناه في مغارات الأزمنة الغابرة، يعود أو نصادفه، مرّة أخرى، شاخصاً في أعلى قمم الإزدهار وأرقى مظاهر الرقي والتقدم، وأمّا الذي كنّا نعدّه تقدّماً طالما ابتغيناه ونافحنا عنه، بكلّ ما أوتينا من إصرار على الحياة، فقد تقادم بغتة وانفرط عقده حتى من دون أن ندركه، فهل بقي، بعد كل هذا الذي نراه اليوم، ثمّة للأحداث أيّ معنى يحضنها ويمنحها المعنى والتبرير، أم أنّ الأحداث لم تعد أكثر من تزاحم في طريق بلا اتجاه؟
رُويدًا رُويدًا، بدأ المتعصّبون الدينيون يُمسكون بزمام الأمور، لا يَبسطون نفوذهم ويُحكمون سيطرتهم فقط على مناطق النزاع وبُؤَر الفقر والتوتّر، هناك حيث ينتظمون ضمن شبكات المنظمات والهيئات غير الحكومية، لا يوجدون فقط حيث يوجد اليائسون والبؤساء، المُفجَعون بأيّ شيء والمَفجُوعون في كلّ شيء، السّائلون لخبز المسيح أو عن خبزه، والطّالبون لتمرات الصدقة أو الزكاة، وإنّما يبسط المتعصبون الدينيون نفوذهم أيضاً داخل مُدن الدّول الرّاقية، عواصم الحلّ والعقد، تراهم لا يبسطون نفوذهم فقط في أقبية الفقر ووسط أحزمة البؤس والحرمان، إنّهم يزدهرون أيضاً بين أواسط نخبة صناعة القرار الدّولي، في قلب العاصمة الأمريكية واشنطن، في وسط العاصمة الروسية موسكو، داخل روما، في قلب مؤسساتها وجامعاتها، وفي داخل تل أبيب أيضاً. لا يتسكعون فقط، داخل الأحياء الهامشية، وإنّما تراهم يجلسون فوق الكراسي الوتيرة داخل أهمّ المجالس التمثيلية، إنهم يأخذون مقاعدهم الأمامية في الكونغرس الأمريكي، داخل الدوما الرّوسي، داخل الكنيست الإسرائيلي، في برلمانات إيطاليا، إسبانيا، بولونيا، البرازيل، وغيرها، دون أن ننسى الحكومات الصغيرة وحكومات الصغار، في رام الله وغزة، في العراق وسط مجالس العشائر ومجالس النحيب والعزاء، في إيران وسط دوائر آيات الله وآيات الله العظمى، يوجدون في كلّ مكان هناك، ويوجدون، بالتأكيد، في كل مكان هنا، نعم هنا حيث الصغار يقلدون الكبار في كل أفعالهم، ويقلدونهم أحياناً حتى في صغائرهم، أو حين يصغرون.
وبفعل هذا الهوس الديني الذي حلّ بالعالم بغتة، وأخذ الناسَ على حين غرّة، ازدادت مشاكل العالم تعقيداً، وتفاقمت الأزمات واستعصت المشاكل على الحلول، وهي نفسها المشاكل، الأزمات، النزاعات والخلافات التي كانت بالأمس القريب، قريبة من الحلّ العادل والدّائم، دانيّة من التسوية السلمية، فإنها أصبحت اليوم، جرّاءَ التعصّب الديني للكبار والصغار معاً، مُستعصية على كلّ الحلول، مُمتنعة على كلّ التسويات.
لقد رَفع الجميع سقف المَطالب السياسية، وكادت تلك المطالب أن تدرك، أكناف السّماء، لم يعد كلّ مَطلب، يشترط لنفسه أن يكون بالضّرورة عادلاً، مُنصفاً ومُراعياً للبشر الآخرين، لم تعد للعدالة والإنصاف أية مَعايير خارج التطبيق الحرفي والكامل لأوامر الله ووصاياه المقدسة، ولم تعد طاعة الله تعني رأفة الخلق ورحمة العباد، وإنما تحوّلت إلى سيف مَسلول وقاذفات قنابل مسلطة على كل مُساومة سياسية أو تسوية سلمية، تحولت إلى فرصة لإشعال النزاع وتأجيج الصراع، سواء تعلق الأمر بالصراع حول الأرض (القدس، الضفة، كشمير، النجف…)، أو الصراع حول القيم (الإجهاض، الإعدام، الزواج، الإيدز، حمل السلاح…). ومتى كان متاحاً للبشر أن يساوموا على وصايا الله وعلى ألواحه، حتى ولو كان رجاؤهم أن تتركهم الآلهة يعيشون بسلام، أو لمجرّد أن تتركهم يعيشون؟
موقع الآوان