صفحات مختارة

الفصام المريب بين النخب والجماهير في العالم العربي

كرم الحلو
كشفت تجارب السنوات الأربعين الماضية بعد هزيمة حزيران (يونيو) 1967 أن ثمة فصاماً مريباً بين النخب والجماهير في العالم العربي يصل الى حد الرفض والقطيعة. ولم يكن ما حدث إبان حرب تموز (يوليو) 2006 في لبنان أو في حرب غزة هذا العام، سوى دليل قاطع على هذا الفصام المتمادي، إذ تأكد من جديد حجم الخلل في التواصل وفداحة الفراق بين النخب والجماهير، خلل وفراق أدّيا الى تناقض المسلمات والخطاب السياسي. فالجماهير كانت تتوقع في خلال الحربين أن تبادر النخب الى مواقف سياسية أو اقتصادية جذرية ازاء العدوان، الأمر الذي لم يكن في حسابات هذه النخب، بينما كان بعضها أقرب الى ادانة خيار المقاومة واتهامها بالمغامرة والفوضوية. وباعتبار النخب أولئك الذين يحتلون المواقع المتقدمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ويمتلكون القرارات المصيرية الحاسمة في العالم العربي، فإن العلاقة بين هؤلاء وبين الجماهير اتسمت دائماً بالتناقض والعدائية على كل المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية.
على المستوى السياسي تشكَّل العلاقة بين السلطة والشعب صورة نموذجية لحالة الفصام المريب هذه، حيث الدولة التسلطية، التي هي الشكل الأكثر شيوعاً للحكم في العالم العربي، تنظر دائماً الى الناس كمصدر قلق وخطر وتهديد لسلطانها وبقائها في الحكم، فتحيط نفسها بالمخابرات والأجهزة والقوى الخاصة، وتتجسس على كل تحرك قد يتجاوز حدود رقابتها، وتحاول التخلص من كل رأي أو اعتراض لا يثني على «انجازاتها» و «مآثرها العظيمة». وترى في أي تقدم يحرزه المجتمع المدني تهديداً لجبروتها وسلطانها.
وتنظر النخب السياسية الى الجماهير بوصفها قاصرة وغوغائية ومحتاجة على الدوام الى وصايتها. عليها أن تقبل خططها ومشاريعها بلا سؤال. على الجماهير أن تذهب الى الحرب إذا شاءت النخب، حتى ولو كانت تلك الحرب جنوناً محضاً، وعليها أن تتقبل نتائجها بالرضا والتبجيل باعتبار ذلك واجباً وطنياً ومصلحة قومية، حتى ولو كانت تلك النتائج كارثية فعلاً. كما على الجماهير القبول بالسلام الذي ترتضيه النخب من دون مساءلة، حتى ولو كان ذلك تراجعاً عن كل الشعارات الوطنية والقومية.
في المقابل فالجماهير تنظر الى النخب بوصفها قدراً مفروضاً تجب الإطاحة به، والتعامل معه على مضض، ولا تختلف علاقة النخب الحزبية بالجماهير. فالأحزاب عموماً لم تكوِّن حالة شعبية، وغالباً ما ظلَّت قلاعاً مغلقة على هموم الناس ومخاوفهم وآمالهم، أو جيوباً على هامش المجتمع لا تصغي له ولا يصغي لها. وليس من الصعب ملاحظة هشاشة الأحزاب السياسية ومحدودية جماهيريتها وعجزها عن اختراق الذهنية الشعبية في غالبية الأقطار العربية، حتى أن عدد الحزبيين لا يتجاوز 2 في المئة من السكان في مصر.
اعتبرت الأحزاب نفسها عقل المجتمع وروحه وطليعته الفكرية والقومية، ونظرت الى الجماهير باعتبارها كتلة عمياء قابلة للتحول في الاتجاه الذي ترسمه. فكان أن تحوّلت الى واعظ ايديولوجي مرفوض، وكانت النتيجة هذا الفصام المريب وهذه الغربة القاتلة بينها وبين الناس.
في ظل هذه العلاقة المأزومة، بدا وكأن هوة عميقة بين النخب الحزبية والجماهير الشعبية، هوة لا يمكن ردمها بالتنظير والديماغوجيا، ولا يمكن ملؤها بأطروحات «القيادة الطليعية» ودعوى امتلاك الوعي الريادي التاريخي. الى جانب ذلك كانت ثمة هوى أخرى تنتصب بين قيادات الأحزاب وقواعدها الحزبية بالذات، حتى ليمكن القول إن فصاماً مريباً يجثم بين نخب الأحزاب وجماهيرها.
وقد يكون الفصام بين النخب الثرية والجماهير هو الأكثر نتوءاً ومدعاة للريبة والقلق. فالهوة الطبقية بين القلة الثرية والأكثرية الساحقة من الجماهير تتسع وتتعمَّق على الدوام، بعد انهيار الطبقة الوسطى العربية تدريجاً منذ أواسط القرن الماضي. وإذا كان الأثرياء ينظرون بقلق وحذر الى الحركات الجماهيرية المطالبة بالعدل الاجتماعي والطبقي، ولا يبالون بمئة مليون أمي وفقير و14 مليون عاطل من العمل في العالم العربي، فإن الجماهير بدورها تتعامل بحقد صامت يترقب لحظة الانفجار والصدام مع النخبة الثرية التي تركتها لفقرها وبؤسها، فيما هي تسرف في ترفها وتكديس ثرواتها في المصارف الخارجية، وتحجم عن الإسهام في إنماء مجتمعاتها ومد يد العون الى بؤسائها ومعوزيها، في وقت يعاني هؤلاء من الجوع والأمية والبطالة واللهاث وراء اللقمة.
وليست علاقة النخبة المثقفة بالجماهير أقل فصاماً، إذ طالما طغى على النخب الإحساس بالتفوق والإستعلاء والفوقية، فنظرت الى الجماهير كحالة دونية قاصرة يجب الارتقاء بها، باعتبار هذه المهمة من مسؤولياتها الريادية والرسولية، وحدها دون سواها. لكن ذلك كله عمق خصامها مع الجماهير وزاد في افتراقها عنها، حتى أنه في وقت تطرح فيه النخبة المثقفة مشاريعها النقطية العقلانية الجذرية، تذهب الجماهير في الاتجاه المعاكس نحو الوهم والخرافة والانغلاق على أصولياتها.
وثمة نخبة أخرى في العالم العربي متمثلة في الزعامات الطائفية والقبلية والعشائرية التي تقف في وجه التجديد والتطور وتحجم عن مواكبة روح العصر، الأمر الذي يكرِّس اغترابها عن الأجيال الجديدة، ويؤكد وجهاً آخر للفصام المريب بين النخب والجماهير في العالم العربي.
إن أساس هذا الفصام والخلفيّة التي يقوم عليها، أن العالم العربي عالم متناقض في العمق، فثمة تناقض كبير بين حكامه وشعوبه، بين مدنه وأريافه، بين أغنيائه وفقرائه، بين عامته ومثقفيه، بين حداثييه وأصولييه. تناقض من دون إزالته، أو الحد منه، لا يمكن إنهاء ذلك الفصام المريب الذي يمعن في افتراق النخب والجماهير العربية، ما يستدعي في رأينا:
أ – إعادة النظر في الحكم والحركات السياسية، بالاحتكام الى ديموقراطية فعلية يكون فيها للجماهير الكلمة الفصل في شكل الحكومات والقيادات السياسية.
ب – إعادة النظر في مقولات النخب وادعاءاتها الفوقية والاستعلائية والإصغاء الى النبض الحقيقي للجماهير.
ج – إعادة نظر فعلية في السياسات الاقتصادية والإنمائية، بما يحد من التفاوتات الطبقية المتمادية ويحقق الحد الأدنى من العدائية الاجتماعية.
د – الحد من التناقض الواسع بين المدن والأرياف باعتماد سياسة تنموية متوازنة.
هـ – إعادة نظر في خطابات النخب من أجل تصوّرات جديدة وموضوعية للواقع العربي تأخذ في الحسبان مطامح الأجيال الجديدة والتحديات التاريخية التي تواجهها المنطقة العربية.
من خلال هذه المبادئ الأساسية يمكن أن يقوم مجتمع عربي أقل تناقضاً وأكثر اتساقاً واندماجاً بين نخبه وجماهيره، ما يمهِّد لإنهاء حالة الفصام التي تهدِّد، فيما إذا استمرت في الاتجاه نفسه بتقويض الأمة من داخلها.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى