بعد العودة من “تاريخ بلا نهاية”: دور الثقافة في استعادة أدوار الدولة
ماجد الشّيخ
في مقابلة أجرتها معه نيوزويك أواخر أيلول (سبتمبر) الماضي، وكانت الأزمة المالية الدولية في بدايتها، قال فرانسيس فوكوياما إنّ مراجعة أطروحاته السّابقة بشأن “نهاية التّاريخ والإنسان الأخير”، أفضت به ومنذ سنوات إلى التّنكّر لها، مبتعدا عن ميوله الأولى نحو “المحافظين الجدد”، ليؤكّد ـ ومجدّدا ـ أنّه لطالما امتلك ما أسماه “نظرة ماركسيّة إلى التّاريخ”. وهذه بالتأكيد لا تنادي أبدا بـ “نهاية للتاريخ”، ولا يمكنها أن تصل مطلقا للإقرار بأنّ الإنسان الّذي يتنكّب اليوم عناء الوجود فوق سطح الكرة الأرضيّة، ووصل به الأمر لاكتشاف الفضاء الخارجي؛ هذا الإنسان ليس هو الأخير. فالنّظريّة الماركسيّة ومادّيّتها التّاريخيّة والديالكتيكيّة لا تقر بالنّهائيّات بشكل مطلق، إنّما هي في مرونتها وتأكيدها على نسبيّة الحقائق في مجال العلوم كافّة، لا سيّما الإنسانيّة والاجتماعيّة، تؤكّد أكثر على ديناميّة ديالكتيكها وتجادله التّاريخي ـ الزّمني مع الواقع ومجموع الحقائق النّسبيّة التي تحيط بنا.
هذا يعني تحديداً أنّ فوكوياما في انسياقه خلف “ثورويّة” المحافظين الجدد، وأحلامهم الإمبراطوريّة التي تحوّلت بفضلهم إلى كوابيس سوداء سوّدت عيشة الكون كلّه، كان ينساق خلف الخروج من “نظرته الماركسيّة” إلى التّاريخ، سابحا في رحاب فضاء آخر خارج التّاريخ، ذلك الّذي لم يكن إلاّ أحد أوهام المحافظين إيّاهم في “انتقاء” تاريخ ليس هو التّاريخ، وتصنيع وقائع ليست هي الوقائع، ولا هي تقارب أيّ واقع. واختلاق ثقافة موهومة، هي هجين مما لا يمكن تهجينه. وهنا تحديدا نصل إلى النّتيجة التي وصلت إليها أحلام النّزوع الإمبراطوري إلى كونها صاحبة أوهام افتراضيّة نظريّا وعمليّا؛ سياسيّا وثقافيّا، فهل وصل فوكوياما وعبر “نظرته الماركسيّة” إلى هذه القراءة، ليخلص إلى نتائجه الشّجاعة التي أضحى يعبّر عنها صراحة لا مداورة؟
يعود فوكوياما إلى جادة الصّواب؛ حين يحكم على “المحافظين الجدد” بفشل ليس نظريّاتهم فحسب، بل ومعطيات واقع أو وقائع حاولوا فرضها قسرا وبالإكراه، عبر الغزو العسكري والعدوان وممارسة القوّة الفاشيّة عبر حروبهم الوقائيّة والإستباقيّة. لهذا رأى في مقابلته مع النيوزويك أنّ “الديمقراطيّة هي عمليّة تحديث واسعة تجري في كلّ بلد” بينما يعتقد “المحافظون الجدد” أنّ “استعمال القوّة السّياسيّة ـ أو العسكريّة ـ يمكن أن يسرّع وتيرة التّغيير” على ما يجري في العراق وأفغانستان. وهنا يفترق فوكوياما تماما عن منهج “المحافظين الجدد” في رؤيته إلى التّغيير الّذي يعتمد برأيه على “إجراء المجتمعات أنفسها ذلك التّغيير”.
وفي إجابة له ردّا على سؤال المجلّة، عمّا إذا كان هذا رأيه عام 1992، قال فوكوياما “إن ّالعمليّة أصعب وأطول مما كنت أشعر به وقتئذ، أصبحت أقدّر تقديرا أكبر كون الدّيمقراطيّة تبنى على مؤسّسات يصعب جدّا إنشاؤها، ولا سيّما حكم القانون، الشيء المهم الآخر الّذي لم أتخيّله عام 1992 هو إمكانيّة أن تصبح الولايات المتّحدّة مثيرة للجدل إلى هذا الحد، ومضرّة إلى هذا الحد باحتمالات حلول الدّيمقراطيّة”.
المراجعة النّقديّة عالية المسؤوليّة التي يكشف عنها فوكوياما، تؤكّد اليوم وفي ظل الأزمة الماليّة الدّوليّة التي تشهدها الاقتصادات الرّأسماليّة، بل الرّأسماليّة الماليّة المنفلتة في تغوّلها، والتي توشك مرتكزات سيطرتها وهيمنتها أن تنهار؛ بفعل استمرار ترنّحها جرّاء مضارباتها ورهوناتها، وتخلّيها عن تنمية أرصدتها عبر الإنتاج والتّجارة والسّلع. هذه الأزمة ربّما أعادت لفوكوياما إمكانيّة استعادته التّوازن لرؤيته ونظرته الثّقافيّة الماركسيّة إلى الاقتصاد عامّة، وإلى دور الرّأسماليّة الماليّة تحديدا، وبشكل خاص إلى “خيانتها” أسس الدّيمقراطيّة الليبراليّة واقتصاد السّوق، وخروجها على قيم الطّبيعة البشريّة.
لسنا هنا لنقول بنهاية التّاريخ الرّأسمالي، كما لم يكن هناك نهاية للتّاريخ الاشتراكي. إنّ فشل نظام ما، لا ولن يعني مطلقاً نهاية للتاريخ، ما ينتهي هو هذا النّظام أو ذاك. رغم أنّ الانحرافات والإدارة السّيئة أو الفاشلة قد تؤدّي إلى انقلابات راديكاليّة عميقة، على ما حصل للنّظام السوفييتي والدّول الحليفة الأخرى التي كانت تستنسخ تجربته، وعلى ما يحصل اليوم للنّظام الرّأسمالي الأميركي، في شقّه المالي الرّيعي تحديدا؛ الّذي يتقلّب على جمر تحوّلاته من نظام أو “النّظام الأمثل” حسب ما يؤمن أو آمن به أولئك الّذين عادوا (من العداء) أو يعادون الدّولة أو أي دور لها في الاقتصاد، ويرفضون تدخّلها في إدارة العمليّة الاقتصادية، لا سيّما في عصر معولم، أضحت الرّأسماليّة ذاتها كعمليّة تاريخيّة لا بدّ منها، أو تقارب أن تكون إحدى ضحاياه، نظرا للانحرافات والتّشوّهات العامدة إلى التّربّح المالي السّريع، على حساب العمليّة الإنتاجيّة والتّسويقيّة للسلع والمنتجات المصنّعة، والخضوع لعمليّات رمزيّة من بيع وشراء أسهم وقروض شركات أضحى معظمها وهميّا أو افتراضيّا.
لا يسير التّاريخ وفق رغباتنا، مهما امتلكنا من قوّة عسكريّة أو اقتصاديّة ترفدها، وإلاّ لكانت الولايات المتّحدة استطاعت أن تسيّر التّاريخ على هوى “محافظيها الجدد”، واستطاعت أن تخرج ذاتها من مأزق الإغراق في خضمّ الأزمة الماليّة الرّاهنة. وهنا يعتقد فوكوياما “أنّ هناك حاجة إلى إعادة تأكيد لاستعمال القوّة الأميركيّة اللّينة، طالما أنّ هناك مشاكل كثيرة، وقد قدّمنا التزامات كثيرة ونحتاج إلى الحفاظ عليها، ويتم الحفاظ بشكل أفضل على معظمها بواسطة القوّة غير العسكريّة”. فهل بغير الثّقافة وعبرها وعبر مؤسّساتها، يمكننا من استعادة دور الدّولة، بما يحافظ أو يلبّي احتياجات الحفاظ على الالتزامات التي تقطعها إدارة الدّولة على نفسها أمام العالم؟
أخطأ فوكوياما نظريّا، وذهبت به الحماسة لـ “ثورويّة” المحافظين الجدد، حدّ المغالاة في التّعبير عن “نهاية التّاريخ وإنسانه الأخير”. لكنّه وفي مراجعته النّقديّة، فإنّه وكمثقّف أعاد تصويب أطروحاته، دون أن توقع أفكاره ضحايا من هنا أو هناك. فكم من الضّحايا وقعت أو سوف تقع في حال عمد نظام ما إلى تصويب أطروحاته الخاطئة، أو سلسلة أخطائه العامدة إلى إحلال قيم “التّربّح بأيّ ثمن” على حساب قيم العدل والمساواة وحقوق الإنسان والكرامة الإنسانيّة للمجتمعات والشّعوب والدّول.. وإعادة الاعتبار للدّولة ودورها. حيث كان هؤلاء وأولئك هم “الضّحايا الصّامتون” لعولمة الرّأسمال المالي المنفلت؛ وهو يبلغ ذروة سقوطه المريع عند أقدام الدّولة، بعد أن بلغ ذروة “حرّيته” و “ليبراليّته” في التّسيير الّذي كان لا بدّ له من الوقوف عند حدّه، جرّاء استغلاله هو أيضا من جانب أولئك الّذين اعتادوا أن يستغلّوا أيّ شيء.. وكلّ شيء.. حتّى أنفسهم. وهي تتاجر بأقوات وأرواح الناس من أجل أرباح سريعة، دون أن يتجشّموا عناء دفع أيّ ثمن من جانبهم، إلاّ الأثمان التي يجبر الفقراء والطّبقة الوسطى على دفعها دائما من حياتهم وحياة أجيالهم في المستقبل أيضا، كما تجبر الدّولة الآن على التّدخّل في مهمّة “إنقاذيّة”.. علّ وعسى.. تستعيد الدّولة دورها التّاريخي المصادر؛ بما فيه من ضمانة تدخّل حقيقي وجاد، من أجل إنقاذ ملايين البشر من سياسات الإفقار والمجاعات التي تعمّقها وتزيد من مآسيها اليوم سياسات الرّأسماليّة الماليّة المنفلتة وتغوّلها المتوحّش، عبر تعولمها ومعاداتها للفكر والثّقافة، وسيرورتها التي أظهرت التجربة وخبرة المجتمعات والدّول، أنّ تلك السّياسات والفكر السّياسي الّذي قادها وتزعّم حركتها، لم تكن إنسانيّة بالمطلق.
وحتّى لا يؤثّر الواقع الاقتصادي الذّي أسيئت إدارته أيّما إساءة؛ حتّى بلغ ذروة التّأزّم الراهن، في الواقع الثّقافي، ينبغي قلب الهرم حتى يصبح للمؤسسات الثّقافيّة دورها الرّائد الآن وفي المستقبل، وبما يؤثّر في حركة النّهضة والتّنوير، وهذا ما يستدعي فعليّا إقامة ذاك التّوازن المفقود بين القيادة الطليعيّة للاقتصاد عبر السياسة، وتلك الطّلائع الثّقافيّة التي ينبغي أن تضطّلع بدور لها ينبغي أن تقوم به، في الاقتصاد والسياسة على حد سواء. كما وبأدوار ثقافية تنهض بعملية التغيير المنشودة، عبر مهام التوجيه والترشيد كمساعد للدولة وليس بديلا لها.
والآن.. وبعد أكثر من ستة أشهر على بدء الأزمة، أمسى واضحا أن الآليات التصحيحية سوف تعتمد بالضرورة على استعادة الدولة لدورها، الذي غيّبته السياسات الخرقاء للرأسمالية المالية الريعية، وذلك عبر التركيز على الأبعاد الاجتماعية التي غيّبتها الرؤى الليبرالية المتوحشة لإمبراطورية العولمة وأربابها من المحافظين الجدد، حيث يدينهم فوكوياما اليوم كأبرز المساهمين في خلق الأزمة، وفي استبعاد الدولة ودورها المفترض في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمجتمعات الإنسانية.
من هنا تحميل فوكوياما الإدارة الأميركية للاقتصاد، منذ الحقبة الريغانية وحتى بدء انفجار فقاعات الأزمة، المسؤولية الكبرى عن ارتكاب الأخطاء بحق كامل فئات المجتمع، في حين يمثل سقوط “وول ستريت” الفصل الأخير في مسرحية انتهت أو أجهزت فيها الرأسمالية المالية على حصن الريغانية التي كانت ابتدعت مقولات اللجوء إلى آليات الأسواق المفتوحة والحرة لتصحيح الاختلالات الهيكلية، وذلك على حساب الدور المفترض للدولة، وانتقاصا منها ومن دورها في إدارة الشأن العام. والدولة المقصودة هنا هي الدولة الديمقراطية تحديدا الممثلة لكامل مصالح الفئات الاجتماعية، وهي المشهود لها بنزاهتها وفعاليتها وكفاءتها في توزيع المغانم والمغارم بالتساوي، دون انحياز لفئة أو لشريحة اجتماعية، على حساب الفئات والشرائح الاجتماعية الضعيفة.
من هنا الحاجة إلى نظام عالمي جديد، على ما ذهبت قمة العشرين في اجتماعها أوائل الشهر الجاري، في بحثها الدائب عن حلول واقعية ممكنة للأزمة الراهنة، وفي كشفها لمكامن خلل كبرى في النظريات الاقتصادية التي استبعدت الدولة، ودورها الهام في إدارة الشأن الاقتصادي والشؤون الأخرى المكملة.