صفحات العالم

عالم أوباما الجديد

روبرت كورنويل
تشكّل البراغماتية علامة أوباما الفارقة، وهي صفة يُقال إنه يقدرها جداً في أولئك المحيطين به، وتظهر هذه الصفة في الدقة الهادئة والمدروسة التي يعبّر بها عن المواضيع السياسية.
بدأ البعض منذ مدة بالحديث عن «مبدأ أوباما»، لكن آخرين يشعرون أن النتيجة قد تكون محزنة، لذلك راحوا يقارنونه بميخائيل غورباتشيف، الذي قرر العمل على تغيير صورة الشيوعية، غير أن المطاف انتهى به إلى تدمير الشيوعية بحد ذاتها، ولكن ثمة أمر واحد لا شك فيه، فقد أضفى باراك أوباما طابعاً جديداً على سياسة بلده الأجنبية، وبسرعة أكبر من الزعيم السوفييتي السابق.
كان غورباتشيف قد أمضى في السلطة 18 شهراً قبل إطلاقه بجدية «البريسترويكا» ونمط التفكير المختلف في عام 1986. في المقابل، لايزال أمام أوباما أسبوع قبل أن يتمّ المئة يوم في منصبه، مدة يُنتقد على أساسها الرئيس الأميركي الجديد وتكون خلالها مقاربته واضحة للجميع. جاءت هذه التغييرات مذهلة بسبب سرعتها ونطاقها، فقد أعرب أوباما عن استعداده للتحاور مع عدوَّي الولايات المتحدة القديمين، إيران وكوبا، كذلك أعلن إعادة تنظيم العلاقات مع روسيا، مطلقاً بالتالي جولة جديدة من المفاوضات بشأن الأسلحة النووية، حتى أنه عرض التخلي بكل هدوء عن خطط إنشاء وحدات دفاع صاروخية في أوروبا الوسطى، خطط تكرهها روسيا، مقابل الحصول على مساعدة روسيا لحمل إيران على وقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم.
علاوة على ذلك، أجرى أوباما محادثة متحضرة مع الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز، خصم الولايات المتحدة الرئيسي ومثير الشغب في أميركا اللاتينية. وقد أقرر للأوروبيين أن غياب تنظيم الأسواق المالية الأميركية كان بالتأكيد المسؤول الأكبر عن أزمة الائتمان العالمية.
عمد أوباما أيضاً إلى إقفال معسكرات الأشباح التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية، وأمر بنشر كامل المذكرات تقريباً التي حددت بأدق التفاصيل تقنيات الاستجواب والتعذيب المحسّنة التي أذنت بها إدارة جورج بوش السابقة.
فضلاً عن ذلك، تعهد أوباما بتقديم دفع جديد للسلام في الشرق الأوسط سيشمل، حسبما تدل كل المؤشرات، حل إقامة دولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني وصفقة بين إسرائيل وسورية تعيد إلى هذه الأخيرة مرتفعات الجولان، كذلك اتخذ خطوات لمعالجة مشكلة غازات الدفيئة والتغيرات المناخية، وهو أمر ما كان وارداً مطلقاً في عهد بوش، ولايزال العالم يقف غير مصدق ما يراه.
عند التحدث عن الأسلوب، نلاحظ أن هناك ثمة «مبدأ أوباما» بكل تأكيد: مبدأ الظهور بمظهر مختلف إلى أقصى حد ممكن عن سلفه.
«جئت لأصغي»، هذه كانت كلمات الرئيس الرابع والأربعين في رحلته الأولى إلى أوروبا الشهر الماضي، رحلة شملت قمتي مجموعة الدول العشرين وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهما منتديان كانت الولايات المتحدة ستسعى للتحكم بهما لو أنهما عُقدا سابقاً، فلم يكن الإصغاء يوماً صفة يتحلى بها الرئيس بوش.
تعكس هذه المقاربة الأكثر احتراماً إلى حد كبير خلفية أوباما غير الاعتيادية، فبما أنه أول رئيس ينتمي إلى أقلية عرقية، وأول رئيس عاش في بلد آخر (وإندونيسيا المسلمة بالتحديد)، يمكنه تلقائياً أن يفهم ما هي نظرة البلدان الأخرى إلى الولايات المتحدة بطريقة افتقر إليها الرؤساء السابقون، حتى بيل كلينتون السريع البديهة، إلا أنها تعكس أيضاً شخصية أوباما.
تشكّل البراغماتية علامة أوباما الفارقة، وهي صفة يُقال إنه يقدرها جداً في أولئك المحيطين به، وتظهر هذه الصفة في الدقة الهادئة والمدروسة التي يعبّر بها عن المواضيع السياسية.
أوباما شخص واقعي، ولا شك في أنه يوافق بالكامل على ذلك التعريف التقليدي للجنون: الاستمرار في القيام بالتصرف نفسه مع توقع الحصول على نتيجة مختلفة.
لذلك شهدنا تغيير الاستراتيجية المتَّبعة في التعامل مع كوبا والتخلي تدريجياً عن سياسة لم يطرأ عليها أي تغيير طوال نصف قرن، فكما يرى أي شخص واقعي، لاتزال هذه السياسة بعيدة عن تحقيق هدفها بالإطاحة بنظام كاسترو، تماما كما كانت في مطلع ستينيات القرن الماضي… بكلمات أخرى، إذا كان أمرٌ ما معطلاً، فأصلحه.
قدمت قمة الأميركتين الأسبوع الماضي مثالاً جيداً آخر على واقعية أوباما، هذه المرة في رده على صيحات الغضب التي تعالت في الوطن بسبب اجتماعه مع شافيز، فعندما أثار المراسل هذه القضية، أشار أوباما إلى أن ميزانية فنزويلا الدفاعية تساوي على الأرجح «1/600 من ميزانية الولايات المتحدة»، لذلك «من غير المحتمل أننا، بسبب مصافحتي السيد شافيز أو تبادلي معه حواراً ودياً، نهدد المصالح الاستراتيجية الأميركية». تميّزت كلماته هذه بطابع أوباما الخاص، فجاءت جافة وساخرة قليلاً، ولربما كان بعبارته هذه يقول ضمناً: لمَ لا يمكننا التصرف بنضج؟
لكن النضج ليس سهلاً، حتى الكثير من الجمهوريين يقر بأن مقاربة «إما معنا أو ضدنا» الأحادية الجانب التي تبناها بوش، والتي تجلت بوضوح خلال ولايته الأولى، أسفرت عن نتائج معاكسة، وأن من الضروري إصلاح الضرر الذي حلّ بموقف الولايات المتحدة الأخلاقية بسبب سجن أبو غريب وغيره.
لكن التطرف في تبني الاتجاه المعاكس والتعامل بلطف قد يُعتبر علامة ضعف. هذه كانت غلطة غورباتشيف، فللمرة الأولى، حظي الاتحاد السوفييتي بقائد لم يزرع الخوف في النفوس، ولهذا السبب كرهه مواطنوه، أما الدول التابعة لبلده ففرحت وتحررت من قبضته.
لا شك في أن الولايات المتحدة لا تملك نظام حكم مستبداً مبنياً على الخوف، وعلى الرغم من ذلك، يتعارض الإقرار بالخطأ مع الافتراض الشائع الذي يعتبر الولايات المتحدة «أفضل» إلى حد ما من البلدان الأخرى، ولم تتقبل قوى التاريخ العظمى يوماً فكرة الاعتذار عن تصرفاتها، والولايات المتحدة، حيث لاتزال عقيدة الاستثنائية الأميركية متقدة، لا تشكل استثناءً. والأهم من ذلك (والأكثر براغماتية) أن مقاربة أوباما قد لا تنجح، ففي شوارع أوروبا، كانت الحشود تهلل، ولكن في غرف المؤتمرات، تراجعت الحكومات الأوروبية أمام طلب الرئيس الجديد رزمة حوافز جديدة والمزيد من الجنود لمحاربة «طالبان» في أفغانستان.
سارع الروس إلى إسقاط «بالون اختبار» مقايضة منظومة الدفاع الصاروخية بإيران، وردت إيران على الإشارات الأميركية الداعية إلى حوار دبلوماسي أقرب بتوقيف الصحافية الإيرانية الأميركية روكسانا صبري قبل محاكمة مهزلة دامت يوماً واحداً والحكم عليها بالسجن مدة ثماني سنوات بتهمة التجسس.
وكما أشار اللورد بالمرستون وآخرون، لا تملك الدول أصدقاء دائمين، بل مصالح دائمة، فقد يلقى أوباما إعجاب القوى الأجنبية، إلا أنها لن تدع هذا الإعجاب يعميها عن مصالحها الخاصة، والعكس صحيح أيضاً، ولا شك في أن العلاقات الأفضل مع الصديق والعدو على حد سواء أمر مستحسن، ولكن ماذا سيحدث حين يتعارض مبدأ التعامل بلطف الذي يتبناه أوباما مع المصالح الوطنية الأميركية؟
الإندبندنت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى