العرب وأوباما: من ينتظر من؟
د. خالد الدخيل
منذ أن تسلم مقاليد السلطة في البيت الأبيض قبل أكثر من شهرين أصبح الرئيس باراك أوباما محط اهتمام، وآمال، وموضوعاً لتساؤلات وتوقعات لا تنتهي من قبل كل العرب تقريباً: مسؤولين، ومثقفين، وسياسيين. بقيت دقة الملاحظة كما هي من هذا المسؤول، أو ذاك الكاتب المراقب لما يقوله الرئيس الأميركي أو يفعله حيال المنطقة. مع الرئيس السابق، بوش الابن، كانت دقة الملاحظة تسجل أخطاء الرئيس وتجاوزاته. ومع أوباما أصبحت الملاحظة في الغالب محكومة ببوصلة تفاؤلية واضحة. نحن في الأخير أمام رئيس يدعو للحوار مع الجميع، حتى مع خصوم أميركا: كوبا، وإيران، وفنزويلا. ثم إن مجيئه للبيت الأبيض أنهى حقبة “المحافظين الجدد” بسياساتهم العدوانية، وخطابهم الفظ والمتعالي. يبدو أن مجيء أوباما بالنسبة للبعض قلب صفحة جديدة ليس فقط في التاريخ الأميركي، بل ربما في السياسة الخارجية الأميركية، وفي طريقة تعاطي واشنطن مع حلفائها وخصومها.
بالنسبة للعرب والمسلمين بعث الرئيس الأميركي الجديد بمجموعة من المؤشرات عززت من حالة التفاؤل بالتغير الذي جاء معه. أول لقاء تلفزيوني للرئيس الأميركي الجديد كان مع فضائية عربية. وأول اتصال أجراه أوباما كان مع الرئيس الفلسطيني. وأول زيارة رسمية له خارج الولايات المتحدة كانت لبلد إسلامي هو تركيا. وفي أنقره خاطب أوباما العالم الإسلامي من على منبر يشكل الحزب الإسلامي الحاكم الأغلبية البرلمانية فيه. ثم تأتي بعد ذلك إنحناءة الرئيس الأميركي للعاهل السعودي أثناء مصافحته له في مؤتمر قمة العشرين التي عقدت في لندن أوائل هذا الشهر. كانت إنحناءة لافتة من رئيس أميركي لم تعرف بلاده طبقة أرستقراطية، ولا نظاماً ملكياً يفرض مثل هذه التقاليد. وحتى في السعودية لا ينحني السعوديون للملك تبعاً لتقاليدهم الإسلامية. في هذا الإطار عبرت إنحناءة أوباما عن تقدير لمكانة الملك ورمزيته العربية والإسلامية. وقال صديق أميركي، في رسالة عبر البريد الإلكتروني، إن هذه الإنحناءة تعكس أن أوباما قد يكون مسلماً حقيقياً. لا أتفق معه في ذلك لأن منصب الملك ليس منصباً دينياً، وإنما منصب سياسي. لكن الدلالة الإيجابية للإنحناءة واضحة. ربما أن الرئيس الأميركي تصرف بشكل عفوي إنطلاقاً من الخلفية الإسلامية التي يملكها. وربما أنه أراد من خلالها بعث إيماءة من الود إلى العالمين العربي والإسلامي، خاصة وأنه يأتي بعد إدارة بوش.
مهما يكن فإن كل المؤشرات السابقة تركت إنطباعاً إيجابياً لدى كثير من العرب، خاصة لناحية استعداد الرئيس الجديد للتعاطي مع قضاياهم على الأقل بشيء من الاعتدال، والتفهم لعدالة مطالبهم. والحقيقة أن ما ينتظره العرب من أوباما قد يتجاوز ذلك بكثير أو قليل. هم يريدون حلا للصراع مع إسرائيل، وللملف النووي الإيراني. ويريدون إنهاء الاحتلال في العراق، وإعادة هذا البلد المنكوب إلى حالة طبيعية، وينتظرون ما سيفعله في أفغانستان وباكستان، إلى غير ذلك. لكن يبقى الصراع العربي الإسرائيلي في بؤرة الاهتمامات العربية. يتساءل البعض: كيف سيتعامل أوباما بطريقته الجديدة مع إسرائيل؟ إلى أي حد سوف يختلف عن سابقيه في هذا الموضوع؟ ويبرز إلحاح هذه الأسئلة وغيرها في ضوء أن الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة أسفرت عن حكومة يمينية متطرفة بزعامة نتانياهو، ووزير خارجية عنصري متطرف، ليبرمان. تتناقض هذه الحكومة في رؤيتها وخطابها مع ما يبشر به الرئيس الأميركي الجديد. وقد حصل الصدام بين الرؤيتين أثناء زيارة مبعوث الرئيس أوباما، جورج ميتشيل، هذا الأسبوع لإسرائيل. حكومة نتانياهو ترفض حل الدولتين، في حين أن سياسة إدارة أوباما تنطلق من ضرورة هذا الحل. بل إن ميتشيل اعتبر السلام في المنطقة مصلحة قومية أميركية. يأمل العرب في أن يتعمق الصدام بين الإدارة الجديدة، والحكومة اليمينية في تل آبيب، بما يقنع أوباما بضرورة ممارسة الضغط على هذه الحكومة من أجل التوصل إلى سلام باتت عناصره جاهزة على الطاولة تنتظر من يجمعها في خطة عملية، وببرنامج زمني واضح.
هل العرب محقون فيما ينتظرونه أو يتوقعونه من أوباما؟ في ظني أن توقعات العرب تختلط فيها المبالغة مع التفكير بالتمني، وربما فيها شيء غير قليل من الهروب من المسؤولية. وهذا ليس لأن هذه المطالب والتوقعات ليست عادلة. هي كذلك وأكثر، لكنها مطالب وتوقعات عرجاء لأنها غير مسنودة إلا بأمنية حصول “الضغط الأميركي” المطلوب على إسرائيل. وهنا تكمن الإشكالية العربية. اختار العرب السلام، واعتبروه خيارهم الاستراتيجي، لكنهم بدون استثناء لم يضعوا بدائل أخرى في حالة فشل هذا الخيار. وقبل ذلك لم يضعوا خطة واضحة لفرض هذا الخيار على الطرف الآخر. بقوا ولا زالوا ينتظرون “الضغط الأميركي”، الذي يأتي ولا يأتي. كل العرب ينتظرون ذلك، ويقولون به. والحقيقة أنه لا الإدارة الأميركية السابقة، ولا الحالية، ولا حتى اللاحقة، تستطيع أن تكون بديلا للعرب، أو أن تفعل بالنيابة عنهم شيئاً هو من صميم مسؤولياتهم قبل غيرهم.
عربياً ربما أن هناك نوعا من الخلط بين دلالة ورمزية فوز أوباما بالانتخابات الرئاسية ودخوله البيت الأبيض أميركياً، ومعنى ذلك ودلالته بالنسبة للشرق الأوسط. أميركياً يعني ذلك أن تحولا كبيراً قد حصل في المجتمع الأميركي، وفي قيم هذا المجتمع، لكنه لا يعني بالضرورة أن تحولا مماثلا حصل للنظام السياسي الأميركي، أو في السياسة الخارجية الأميركية. فالنظام السياسي سبق المجتمع في التحول، من حيث أنه هو الذي مهد الطريق أمام فوز مرشح أسود بمنصب الرئيس. فعل ذلك من خلال التعديلات الدستورية وفي الأنظمة منذ ستينيات القرن الماضي. لنتذكر أن أوباما كان عضواً في مجلس الشيوخ لولاية إلينوي، ثم بعد ذلك عضو مجلس الشيوخ الفيدرالي. وقبله كان المرشحون السود يفوزون أحياناً بمقاعد في الكونجرس، أو بمناصب عمد بعض المدن الأميركية، أو حكاماً لبعض الولايات. كل ذلك كان يحصل طوال العقود الماضية. وكان هذا ضروريا للتمهيد لما بعده. وبالتالي من الواضح أن النظام السياسي كان مهيأً منذ زمن طويل لمثل هذه النتيجة التي انتهت إليها الانتخابات الرئاسية الأخيرة، واستوعب دلالتها حتى قبل حصولها. مالم يكن واضحاً هو موقف المجتمع، ومدى استعداده للتصويت لمرشح أسود للفوز بأول وأقوى مكتب في النظام السياسي الفيدرالي. وقد جاء فوز أوباما ليؤكد أن هذا التحول الثقافي الاجتماعي قد حصل أيضاً. في ضوء ذلك يكون فوز أوباما في المقام الأول تعبيراً عن تغير اجتماعي على مستوى المجتمع الأميركي، وليس عن تغير في النظام السياسي الأميركي. الأمر الذي يشير إلى أن الأولويات السياسية الأميركية، والأهداف الاستراتيجية الأميركية لم يحصل بالنسبة لها أي تغيير يذكر. بعبارة أخرى، فوز أوباما هو تعبير عن النظام السياسي الأميركي قبل أي شيء آخر، ونجاحه في قيادة المجتمع نحو المرحلة التي وصل إليها الآن، وعلى أكثر من مستوى. هل يمكن أن نقول شيئاً مشابهاً عن الأنظمة السياسية العربية؟
ومع ذلك هناك ميل عربي دفين لسحب دلالة فوز أوباما أميركياً على منطقة الشرق الأوسط كله. بمعنى أن هناك من يحاول أن يجعل من مجيء الرئيس الجديد مؤشراً على تحول قد يكون كبيراً، وينتظر السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط، بما في ذلك الصراع العربي الإسرائيلي. وهذا ميل يعكس الحالة السياسية في المنطقة، وهي حالة يأس، ليس فقط بسبب استعصاء إيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي، بل أيضاً بسبب تفشي ظواهر كثيرة ومتداخلة: الفساد، التطرف، الاستبداد، الإرهاب، الفقر، وترهل الدولة العربية. وما يزيد الأمر سوءاً أنه ما من دولة عربية تستطيع الإدعاء بأنها بمنجى من بعض هذه الآفات الخطيرة.
من ناحية أخرى، يتوجس العرب من بعض مواقف الرئيس الأميركي الجديد: فهو يريد أن يترك العراق. لكن كيف سيتم هذا؟ وضمن أي برنامج سياسي لهذا البلد المنكوب؟ هل سيتم بالتفاهم معهم، أم مع إيران؟ ثم هناك سياسة أوباما المنفتحة على حوار غير مشروط مع طهران. ماذا يعني ذلك؟ وهل هناك حدود زمنية لهذا الحوار؟ وأكثر ما يشغل بال العرب حالياً هو إمكانية حصول صفقة أميركية إيرانية تأتي على حسابهم. طبيعة الاهتمامات العربية في الشأنين الإسرائيلي والإيراني، وطبيعة التحالفات العربية لا تشجع على القول إن تغيراً كبيراً يمكن انتظاره من الإدارة الجديدة.
جريدة الاتحاد