“شرور” الديموقراطية اللبنانية
حسن عبّاس
لا يزال كمٌّ كبير من الحبر والورق يهرق على مذبح التغنّي بالديموقراطية اللبنانية – “الديموقراطية الوحيدة في الشرق” – وإن يكن كثير من المتحلقين حول هذا المذبح قد أدركوا أن، لا بل صنعوا، معوقات جمّة تفرض نفسها حدوداً على مدى المنحى الديموقراطي في النظام السياسي اللبناني. تتجلّى هذه المعوقات خلافاً دائماً لن ينتهي يوماً حول القانون الإنتخابي الواجب إعتماده. فالسنّة والشيعة في طمع دائم لقضم بعض المقاعد النيابية المحددة للموارنة لأنهم كأكبر طائفتين في لبنان لم يستطيعوا تقبّل فكرة مقاعد مخصصة للموارنة تفوق تلك المخصصة لهم. ومن ناحية أخرى، إن القانون الإنتخابي الأمثل في نظر كل طائفة ليس هو القانون الذي يفضي الى التمثيل الديموقراطي للرأي العام اللبناني، ولكنه القانون الذي يزيد من تمثيلها عبر قضم مقاعد مخصصة لطوائف أخرى، وإيصال مرشحين مغتربين عن شؤون طائفتهم، أو بالأحرى ملتحقين بمشاريع سياسية لطوائف أخرى. فالشقّ الأول لا يهم أيّاً من الطوائف إلا بما يصبّ في الشق الثاني. فالسنّي المعارض للغالبية السنّية ينظر إليه الشيعة كمكسب لهم بما فيه من إنتقاص لحجم التمثيل السنّي. وكذا هو الشيعي المعارض للغالبية الشيعية في نظر السنّة. وكذا هو الماروني المعارض للغالبيات المارونية.
الثابت في معظم الكتابات يبقى مديحاً تفاضلياً لهذه الديموقراطية قياساً بالأنظمة السياسية القابضة على رقاب شعوب الشرق. وهذا الكلام وإن كان لا يخلو من الصواب إلا أن ما يعيبه هو غياب إدراك هشاشة ما يميّزنا عن الديكتاتوريات الشرقية. فالسمات الممتدحة في الديموقراطية اللبنانية تتجه الى التقلّص مع تغير المعطيات السوسيولوجية التي سمحت بتميزها عن محيطها الاوسع.
ارتكزت “الصيغة” اللبنانية على تقسيم للأدوار بين الدولة والطوائف المنضوية في كنفها. وكانت فرضيتها الأساسية إفساح المجال لشيء من السلطة المركزية القادرة على اختراق صفوف الطوائف جميعاً. هذا “الشيء من السلطة المركزية” هو الدولة بوظائفها المتعددة، وهو ضمان الحديث عن الوطن، وإن كان وقع كلمة الوطن في الحالة اللبنانية ضعيفاً لأننا لم “نتقومَن” بحسب تعبير كمال الحاج. وهو أيضاً، وهذا هو الأساس، الحيّز الذي يربط الجماعات القائمة في لبنان. وهذا ما يتيح الحديث عن نظام سياسي بما يحويه مفهوم النظام السياسي من آليات لتقاسم السلطة في الدولة.
هذه الفرضية الأساس، أي “الشيء من السلطة المركزية”، قائمة على فرضية أخرى يمكن اعتبارها فرضية الصيغة الأساسية فتصير الأولى فرعية أمامها. هذه الفرضية الأخرى تجد قوامها في أن الطوائف اللبنانية الأساسية ليست كيانات متحدة بل هي أجزاء، وتالياً ستحكم سلوكيات هذه الأجزاء آليات المشاركة في السلطة المركزية، التي هي سلطة أعلى من سلطة الطوائف، تتشارك فيها الطوائف، أي عملياً أجزاء من مختلف الطوائف. فالخيارات السياسية التي كانت متوافرة للبنانيين حين نشأة لبنان، أوسع بكثير من هذه المتوافرة حالياً، وإن تكن مرتبطة بالتشكيلات السياسية العاملة على مساحة الطائفة التي ينتمي إليها المواطن. فالشيعي في خياراته السياسية كان قادراً على الإختيار بين تأييد آل الأسعد أو آل الخليل أو آل عسيران أو حتى آل الزين أو قوى اليسار أو غيرهم. هذا عدا خياراته التي يمكن أن تتجه الى زعامات بقاعية. كذا السنّي، فقد كان يستطيع الإختيار بين محض ولائه لآل الصلح أو آل سلام أو آل كرامي أو حتى الى شخصية أخرى ذات مدى شعبي، وكانوا كثراً. هكذا كانت معظم الطوائف. حتى الموارنة كانت خياراتهم أوسع من المتاحة لهم راهناً، وإن كانوا الآن الوحيدين الذين تبقّت لهم نعمة الإختيار.
لا تحتمل الصيغة اللبنانية في صلب مفهومها نموذج “الطائفة المتحدة” إذا كانت هذه هي إحدى الطوائف الاساسية الكبرى. لأننا، في هذه الحالة سنكون أمام أحد تجلّيين لعلاقة هذه الطائفة بالسلطة المركزية: إما يطغى حجم هذه الطائفة الموحدة على بنية توزيع السلطة في الصيغة وإما تخرج هذه الطائفة من بنية السلطة ومن الإطار الوحيد الذي يسوّغ مسمّى لبنان. وهنا الطامة الكبرى. النظام اللبناني في طبيعته لا يحتمل ثقل الطائفة الشيعية في السلطة في ظل امتزاج حركة “أمل” و”حزب الله”، لأنه لا يحتمل ثقل مطالبهما كصوت واحد. وفي الوقت نفسه هو لا يحتمل خروجهما من أطر السلطة، وخصوصاً مع وضع حزب الله الراهن كطرف مسلح، لأن وجوده في المعارضة تهديد عملاني للسلطة المركزية، ولباقي الطوائف، كما حصل أثناء وقائع السابع من أيار المشؤومة. إنه بإيجاز لا يستطيع إحتمال نموذج الطائفة السياسية ذات التمثيل الأحادي في أطر السلطة، من خلال ما يتاح لممثلها النافذ من المال السياسي. المعنيّ هنا هم الشيعة أيضاً، إضافة الى السنّة، وذلك لكثرة ما يمتلكونه من مال يسهل توظيفه سياسياً. وهذا ما يؤدي الى ضغط هائل على تركيبة السلطة اللبنانية.
تضغط المتغيرات السوسيولوجية داخل الطوائف والتي أفضت الى “طوائف متحدة” على الصيغة اللبنانية. إن بروز الصوت الطائفي الواحد، والذي يتجلى بـ”أفقع” صورة في سلوك الطائفة الشيعية ومن بعده في سلوكيات الطائفتين السنية والدرزية (أي الطوائف الإسلامية) يضغط على الصيغة اللبنانية بأكثر مما صمّمت أساساً على احتماله. فالذي يهدد الصيغة اللبنانية، راهناً، ليس مطلب المشاركة السني ولا مطلب المحرومين الشيعي إنما أحادية التمثيل في الطوائف الاسلامية. وبهذا، فإن تهديد الديموقراطية اللبنانية أمر واقع كون هذه الديموقراطية هي الفراغ في السلطة التي صكّتها الصيغة. القوى السياسية التي تحتكر تمثيل هذه الطوائف الثلاث، لا ترضى بما خصصته الصيغة لكل منها من تمثيل في إطار السلطة المركزية. فهي جميعاً تحاول القضم من نفوذ ما أعطي للطوائف الأخرى، وهذا ينعكس بشكل خاص على التمثيل المسيحي في السلطة، لأنهم الآن ليسوا طوائف متّحدة سياسياً على غرار الطوائف الإسلامية، وإن كانوا قد تشكلوا، حول الموارنة، كطائفة سياسية قبل الطوائف الإسلامية بزمن. لذلك لا يزالون، بفرقتهم، يحافظون على أساس الهامش الديموقراطي اللبناني البسيط الذي لا نزال نحيا فيه.
أصل آخر للديموقراطية اللبنانية يتمثل في برلمانية النظام التي تقع في أساس هذه الديموقراطية والتي وصف أحد واضعي الصيغة اللبنانية، ميشال شيحا، دور برلمانها بقوله: “نقاش في الداخل للحيلولة دون الصراع في الخارج” .débattre à l’intérieur pour ne pas se battre à l’extérieur إذاً فوظيفة البرلمان اللبناني إمتصاص المشكلات التي تطرأ ومعالجتها بالحوار. أين هذا الدور للبرلمان راهناً؟ إنه من دون شك دور غائب، فهو لم يعد مساحة حوارية إذ نستطيع التكهّن بمسار جلساته عبر قراءة الصحف الصادرة قبل شهر من الجلسة. وظيفة النائب لم تعد التمثيل الحر للشعب اللبناني. إنه ليس أكثر من صوت مضاعف لصوت زعيم الطائفة. وهو عاجز عن أداء دوره الحواري، وهذا ما عكسته جلسات الحوار ثم التشاور ثم الحوار. كأن لا ثقة بالنائب كوكيل، وكأن هناك خشية من زلات يقع فيها النواب “ممثلو الشعب” لا يكون زعيمهم الذي ينطقون بإسمه قد رسمها بعد! وقد أبدع رئيس المجلس في وصفه غفلة النواب عن معرفة إتفاقات الزعماء عندما قال إنهم ينطبق عليهم القول: “إعذرهم يا أبتاه، إنهم لا يعلمون شيئاً عمّا يصرّحون”. أما في توقف جلسات المجلس برمتها، ولفترة طويلة، فهذا حديث آخر.
هذا الضغط على الصيغة، يدفع الى الكلام عن مفهوم الحريات التي يكفلها الدستور اللبناني الذي نص على حريات فردية كثيرة، ولكن الحريات الأهم ترتبط بمفهوم الصيغة، لذلك أتت على شاكلة حريات للجماعات – الطوائف، لا على شاكلة حريات فردية. فالدولة تكفّلت رعاية أبنائها الشرعيين، أي الطوائف، ولفظت الى حد بعيد ما كان يمكن أن يشكل مواطنيها أي الأفراد، كلّا على حدة.
فـ”المواطن الفرد”، هذا المفهوم الغريب عن طبيعة الدولة اللبنانية، هو “إبن زنى” إن لم يلج الدولة عبر علاقة تتوسطها طائفته. إذاً، فحرية الفرد محدودة إن مارس حياته معتبراً نفسه مواطناً. المحدودية الأخطر على الحريات هي محدودية الحريات داخل الطوائف. هذا النوع الأخير من الحريات هو ما يجب على الدولة العمل على كفالته لأنه الشرط الأساسي لضمان الحركية، ولضمان التنوع داخل الطوائف، وهو وحده قادر على خلق مناخات تخفف من حدة التوتر الذي يتجاذب أطراف الصيغة اللبنانية ويهدد بتمزيقها. إن “شيطنة” كل معارض للقوى التي تحتكر تمثيل الطوائف، وخصوصاً في ظل ضعف السلطة المركزية المنوطة حماية هؤلاء الأفراد، تخلق صعوبات جمّة للنظام اللبناني الهشّ أساساً في طبيعته. “شيطنة” أصحاب التوجهات المختلفة عن تلك التي يتبنّاها القيّمون على شؤون الطوائف شأن تبرع فيه الأحزاب الكبرى لدى السنّة والشيعة والدروز. إن الطوائف اللبنانية لم تدرك بعد ما جاء على لسان “غريب” ألبر كامو من اننا “في كل الأحوال، نحن دائماً مخطئون قليلاً”، وتستمر كل منها في تعميم خطابات طائفية تدّعي الحقّانية، ملغية النسبية، و”مشيطنة” الأصوات الداخلية المخالفة لما تزعمه من حقّانية. هنا تحدٍّ يفرض نفسه على الدولة، وهو تحدي حماية الأصوات “النشاز” لأنها حاجة لاستمرار عزف “السمفونية اللبنانية”.
في إطار هذه الترسيمة القلقة، مجال لحديث آخر هو حديث الاطر المفاهيمية لما يطرح علينا تحت مسمّى الحوار بين الطوائف، ويتخذ عملياً شكل الحوار بين طائفتين. المعنيّ هنا بالتحديد هو “الحوار السني – الشيعي” الذي يدّعي منع “الفتنة” هدفاً له. هذا الحوار ينغلق داخل دائرة مستغرقة في مفهوم “التقريب بين المذاهب”. هذه الدائرة عصيّة على المناقشة العامة، إذ لوجودها شروط أهلية حددتها المذاهب الفقهية منذ غابر الازمان (فإن لم تكن ملا او شيخاً أكلتك الملالي والشيوخ) باعتبارها شروطاً لأهلية المشاركة في هذا الحديث. إن النتيجة الحتمية لما يسمّى هنا حواراً هي إعلاء صوت السلطة الدينية داخل كل طائفة بإعتبار باقي المكونات البشرية للطائفة غير ذات أهلية. الإنعكاس على الصيغة اللبنانية يتأتّى من كون هذا المسار يفضي الى “طوائف متحدة” خلف أصحاب الإختصاص والأهلية، ومن كون العلاقة بين هذا المسار المذكور ومسار الصيغة اللبنانية تدخل في إطار تنابذ. فمكسب الواحد منهما إسفين في الاخرى. هذا إضافة إلى أن طرح المسائل تحت عناوين كهذه تُدخل في الشأن العام صلاحيات تندرج تلقائياً، وسلفاً في احتكار للطوائف الإسلامية دون قدرة الطوائف المسيحية على الإشتراك في هذا الحيّز من الشأن العام. كذلك فإن هذا الشأن العام الذي يعني جميع اللبنانيين بمختلف إنتماءاتهم الطائفية والمدنية والفكرية، بما له من إنعكاسات على أمنهم الشخصي، يتحوّل إلى صلاحية، لا بل الى إقطاع يحوزه “حزب الله” الشيعي من جهة، والجماعات السلفية السنّية من جهة أخرى.
وقانا الله شرور الديموقراطية عندما تمسخ… ¶
النهار