مقاومة- دولة وطنية
موفق نيربية
إذا كانت السلطات المصرية تعرف سابقاً بوجود ونشاط الأنفاق العديدة الواصلة بين مصر وقطاع غزة، فهي تخرق عن تعمّد القوانين الدولية، لكنّها تساعد بذلك شعباً شقيقاً في محنته تحت الاحتلال والحصار، ولو أثارت دول أخرى- إسرائيل مثلاً- هذه المسألة من هذه الزاوية لأحرجت الحكومة المصرية، لكن هنالك تفاهماً غير معلن- كأنه هنالك- على غضّ الطرف عن ذلك، أو السكوت عنه لوقت الحاجة إلى الضغط على مصر، أو أنه مقابل ما يجري من انتهاكات دموية مع غزة، أو هو صورة عن شرايين مشتركة، متروكة لإثبات انتماء غزة إلى مصر لاحقاً. ذلك ليس برهاناً على تناقض دولة إسرائيل مع كونها دولة، بمقدار ما هو على أزمة «الدولة» المصرية، فإسرائيل لا تقوم بما تقوم به على أرضها، في حين تفعل مصر ذلك.
مثال آخر أشدّ حرارةً في هذه الأيام: جاء في بيان النائب العام المصري أن «التحريات أكدت قيام الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني حسن نصرالله بتكليف مسؤول وحدة عمليات دول الطوق في الحزب بالإعداد لتنفيذ عمليات عدائية بالأراضي المصرية». وهذا اقتباس غير مباشر، يرجع إلى خطاب السيد نصرالله الذي ردّ فيه على الاتهامات المصرية، وقال فيه إن ما كان يقوم به المتهم الرئيس في القضية هو «عمل لوجيستي لمساعدة الإخوة الفلسطينيين في نقل عتاد وأفراد لمصلحة المقاومة في داخل فلسطين». وكذلك «إذا كانت مساعدة الإخوة الفلسطينيين أصحاب الأرض المحتلة والمحاصرين، المُقتّلين المشردين المُجوّعين جريمة، فأنا اليوم بشكل رسمي أعترف بهذه الجريمة».
لا تقبل أي دولة أن يتمّ على أراضيها «عمل لوجيستي» من هذا النوع- ولو حدث مثل ما حدث في سورية مثلاً من دون علم سلطاتها لحدث ردّ فعل مشابه، رأيناه أم لم نره- كما تبيح الشرائع الدولية حق الشعب في مقاومة محتلّيه، وهنا تناقض وتعارض بين مهمة تعزيز بناء الدولة الوطنية واستقلالها وسيادة القانون والمواطنية فيها، مع حق المقاومة المفتوح الذي لا ريبة فيه ولا شبهة في قيمته الأخلاقية والإنسانية.
هنالك عدة ينابيع لهذه المشكلة:
أولها عدم اعتراف الكثيرين من العرب بدولهم، الأمر الذي يُسألون عنه قبل أن يَسألوا هم غيرَهم الاعتراف بهذه الدول. الدولة حدود وجنسية ومجتمع مدني وحقوق وواجبات، ولا يعترف أولئك لا بالحدود ولا الجنسية ولا ببقية «العتاد». مقاومة ثبات الدولة من هذه المداخل ليست مقاومة. دون أن يعني هذا أن «دولنا» قد أنجزت تحوّلها إلى دول وطنية حديثة، ومنها مصر الأكثر انسجاماً، إذ ينتقص من ذلك قصورُها عن الحدّ الأدنى من المعيار الديمقراطي.
وثانيها السياسة الإسرائيلية التي لا تعرف حدوداً تتوقّف عندها، فهي تحاصر شعباً، وتدمّر في يومٍ ما يبنيه في أعوام، وتقتل المئات والآلاف من دون غضب العالم الرسمي والقانوني، لتتابع ما يشبه ثأراً توراتياً للمحرقة النازية باستمرارٍ بحق أناس لا علاقة لهم بها، ويتعاطف كثيرون مع ذلك، بل تثبت تهمة الشراهة إلى هذا الدمِ بانتخاب من هو أكثر دمويةً من سابقيه.
وثالثها تركيبة مقاومة المحتلّ التي انتهت حركة التحرر الوطني إليها. إذ أصبحت ذات بنية طائفية-مذهبية في لبنان، وجدنا تبريراً لها أمام الاحتلال ولا نجده في الحركة السياسية الداخلية. هو حزب سياسي يدخل الانتخابات السلمية، ومقاومة مدججة بالسلاح في وقت واحد، ولا يبذل أيّ جهد لحلّ هذا التعارض– وهذا ممكن- بل يصرّ على إنكاره وتجاهله. كما هي أيضاً ذات تركيبةٍ مماثلة في غزة، تنفي الآخر القريب وتبرر ذلك بنفي الآخر المحتل. وليس هذا تبنياً لا لرأي جماعة «14 آذار» كما هو، ولا لرأي «فتح» كما هو، لكن «كلّ شيء في وقته حلو».
ورابعها في المرجعية التي تحكم العقل العربي وتحرمه من عقلانيته، فبعد أن كادت الدول العربية الناشئة إثرَ الحرب العالمية الثانية تحوز اعتراف شعوبها ونخبها، وعلى تعزيز اعتراف العالم باستقلالها، عدنا بقوة الإيديولوجيات الأفغانية والإيرانية إلى «الأممية» والكوزموبوليتية بشكلهما الآفل، الذي لم يكن ليهتمّ بمفهوم الدولة الحديثة وحكم القانون وتنمية المواطنية والمجتمع والاقتصاد الوطني. ووجد بعض من عجزوا عن التكيّف من أهل الإيديولوجيات القديمة اليسارية والقومية ملجأً لهم تحت المظلة الجديدة الطارئة وقبضتها الفولاذية التي تعرض نفسها أداةً للكرامة والهوية الضائعة.
يحتاج بناء الدولة الوطنية، المرتبط بالمعاصرة والحداثة والمدنية والاستقلال والقوة والمنعة، إلى «مقاومة» تعبّر عن الحاجة إليه سلمياً، وتكون هي بذاتها نبعاً لمقاومة أخرى للاحتلال وظلم الغريب، من نوعٍ جديد لا تُقاوم فعاليته… ولا يُردّ مَنطقُه.
* كاتب سوري