كلمة تاريخية !
حسام عيتاني
بدلاً من معالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة في بلاده، نقل الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد معركته الانتخابية إلى منبر مؤتمر الأمم المتحدة لمكافحة العنصرية. لقد امتنع عليه تقديم برنامج يشرح فيه تصوره لمعالجة تصاعد البطالة وتفشي الفساد وتزايد الفوارق الطبقية في المجتمع الإيراني إلى مستويات قياسية، فاختار التصويب على الهدف السهل: العنصرية الإسرائيلية ونفاق الغرب عند تناوله مشكلات حقوق الإنسان في الدول النامية.
يمكن الاستدلال على الطابع الإيراني الداخلي لخطاب أحمدي نجاد في جنيف، من الاستقبال الذي أعده له مؤيدوه عند عودته إلى طهران، ومن الكلمة التي ألقاها بعد هبوطه من الطائرة التي أقلته من هناك. لقد ظهر جلياً أن الكلام الذي وجهه إلى الغرب مقصود أن يسمعه الإيرانيون الذين يتوجهون إلى صناديق الاقتراع بعد أقل من شهرين. والسلوك هذا دأب الأنظمة التي تعاني أزمات استمرارية واستقرار ورؤية إلى المستقبل. فعوضاً عن مواجهة المشكلات مواجهة مباشرة، تُفضِّل تلك الأنظمة إلقاء عدد كبير من القنابل الدخانية التي يعجز الناظر إليها عن تحديد مكمن الخلل الحقيقي وتعيينه.
بيد أن هذا جانب واحد من جوانب الكلمة التي لم يتردد بعض ‘الممانعين’ العرب من وصفها ‘بالتاريخية’، وفي هذا استسهال يصل إلى حدود الإسفاف حيال معنى التاريخ. ثمة نقاط تستدعي قراءة أعمق لما قال الرئيس الإيراني، أو لما لم يقله.
وفي وسع طالب متوسط المستوى لمادة التاريخ الحديث اكتشاف عدد من التناقضات والاسقاطات الإيديولوجية في الخطاب الذي غاب عنه الحد الأدنى من التناغم مع الوقائع التاريخية، ليس من وجهة النظر الغربية، بل تحديداً من وجهة النظر العربية والفلسطينية.
ومن دون الانخراط في تصويب أو نقاش لمضمون الكلام الإيراني، يتعين القول إن ما يعني العرب من الخطاب المذكور يتمثل في ثلاث نقاط: الأولى هي استعارته المجتزأة لمقولات القومية العربية الكلاسيكية. يمكن التذكير هنا بطروحات تعود إلى قسطنطين زريق بل إلى جورج أنطونيوس (صاحب ‘يقظة العرب’ الذي صدر قبل تبلور الشكل العام للمشروع الصهيوني في فلسطين) وغيرهما ممن صاغوا ما يمكن اعتباره النظرية القومية العربية الكلاسيكية للصراع العربي- الإسرائيلي. موجز النظرية هذه يقول إن الغرب زرع إسرائيل في قلب العالم العربي لمنع تواصله الجغرافي والسياسي وبالتالي للحيلولة دون قيام وحدة عربية تشكل عقبة كبرى أمام تحقيق المصالح الغربية في نهب الثروات العربية والهيمنة على المنطقة. بغض النظر عن دقة أو صحة الطرح هذا، إلا أنه يتمتع بحد أدنى من التماسك النظري: ضحية وعدو وهدف للعدوان. إذا وضعت أفكار أحمدي نجاد على طاولة تشريح بحثاً عن عناصر مشابهة، لغاب عنها ‘الهدف’ الذي يفترض أن الغرب يستخدم الاحتلال الإسرائيلي لتحقيقه. الأرجح أن ذلك ليس بمحض المصادفة. فأي هدف سيحدده المسؤولون الإيرانيون من وراء إنشاء إسرائيل سيمكن الرد عليه بجملة من الحقائق التي تتعلق بالسياسات الإيرانية ذاتها. فإذا قيل إن الهدف الإسرائيلي- الغربي من إقامة الدولة اليهودية هو تقسيم الأمة الإسلامية، أمكن الرد بسهولة أن المواقف الإيرانية منذ وصول أحمدي نجاد على الأقل، تساهم في تفتيت مواقف العالم الإسلامي من خلال دفعها الدول الإسلامية إلى الدخول في معركة بين قطبين أو أكثر. يضاف إلى ذلك أن علاقات إيران بالكثير من الدول الإسلامية ليست مما يُحتذى. ويحتمل هذا الجانب ما شاء الله من الإضافات.
النقطة الثانية تذهب إلى أن الغبار الذي أثاره الرئيس الإيراني، غطى تماماً على موقف الضحية الحقيقية. والشعب الفلسطيني يدفع منذ أكثر من ستين عاما ثمن كل تجليات العنصرية التي تمارسها إسرائيل ضده. وهي مأساة شواهدها حية في مخيمات الشتات وفي الحصار الذي يحيط بأهالي الضفة الغربية وغزة، وهي معاناة طازجة في ذاكرة المجازر التي لم تمض سوى أسابيع قليلة على توقفها في غزة. وليس من التجني القول إن القضية الفلسطينية يجب أن يعبر عنها أصحابها وليس مَن ‘يستولي على العَرْض’ (بحسب التعبير الإنكليزي) لتمرير رسائل إلى جمهوره الخاص وإلى الدول التي تريد بدء حوار معه حول مسائل أخرى.
النقطة الثالثة ليست سوى تذكير بالغياب العربي المدوي عن المؤتمر الذي أطلق عليه اسم ‘دوربان 2’. لقد حضر العرب أثناء النقاشات التحضيرية التي أدت إلى تغيب ومقاطعة عدد من الدول الغربية، وهي نقاشات دارت ليس فقط حول القضية الفلسطينية والعنصرية الإسرائيلية، أي بشأن المسألتين اللتين ركزت وسائل الإعلام العربية الضوء عليهما، بل أيضا حول قضايا تتعلق بالمفاهيم الكبرى لحقوق الإنسان والحريات العامة التي يمكن القول إن الآراء العربية بشأنها عكست عمق الأزمات التي تعيشها المجتمعات والشعوب والدول العربية ككل. وهذا تعبير يبغي عمداً البقاء في العموميات.
*كاتب لبناني