بعض تداعيات ديربان
حازم صاغية
ما عاد لائقاً بنا أن ننسحر بكلمة يتفوّه بها أحمدي نجاد بعد انسحارنا بكلمة كان تفوّه بها رجب طيّب أردوغان. الأمر يكاد يغدو مرَضيّاً، فيما لا يخلو المرض من استعراضيّة يحدّدها مكان العرض والاستعراض: أوروبا!
هنا تكمن الأزمة، لا أزمة السياسة فحسب في العالم العربيّ، بل أزمة الحضارة أيضاً. فالمعضلة العميقة هي إقرارنا الواثق، ولو الضمنيّ، بأن ما تقوله أوروبا، أو «الغرب» بأوسع المعاني، هو «الصحّ». لذا ترانا نتعرّى للحصول على علامته التي نعجز، مرّة بعد مرّة، عن إحرازها، ثمّ ننقضّ عليه بشتم لا نجيده فنصفّق لمن يجيده بالنيابة عنّا.
هكذا تستمرّ تداعيات ديربان – 2، وأهمّ ما يستمرّ، عربيّاً، ذاك النعي للغرب الذي «يدّعي» الحريّة والتنوّر فيما هو – «وا أسفاه» – عنصريّ قحّ وقبيح. وطبعاً فالدليل الذي لا يخطئ أن وفوده الى المؤتمر انسحبت احتجاجاً على «الحقائق» التي خرجت من فم الرئيس الإيراني (وفي عدادها، وعملاً بذهنيّته التآمريّة، أن الغرب نفسه «أرسل» اليهود إلى منطقتنا كي يقيموا نظاماً عنصريّاً). وهذا بعدما كانت بضع دول غربيّة، على رأسها الولايات المتّحدة، قد قاطعت المؤتمر أصلاً.
يُستحسن، بعد ما سمعناه وشاهدناه، أن نخرج من لعبة الإبن الذي لا يُوفّق في إحراز رضا أبيه وإعجابه، حتّى حين يكون الموضوع في حجم التدليل على انتهاكات وإذلالات إسرائيليّة أوضح من الشمس في رابعة النهار.
فالعجب العجاب أن البلدان التي قاطعت المؤتمر، أو قاطعت كلمة نجاد، هي حيث موضوعة العنصريّة مطروحة على النقاش العامّ، وحيث همّ بناء مجتمعات تعدّديّة همّ قائم، وحيث لا يزال الاحتفال على قدم وساق بوصول باراك أوباما الى البيت الأبيض. ولا نضيف جديداً إذ نقول إن مصطلح «العنصريّة» نفسه (وكذلك الوطنيّة والتقدّميّة والشعب الخ…) إنّما تعلّمناه هناك، ومن هناك، قبل عشرات السنين على اكتشافنا أن الغرب «وا أسفاه» عنصريّ، وأنّنا نحن، الغارقون في دماء بعضنا ودماء الأكراد والدارفوريّين، أساتذة في شرح موضوعة العنصريّة!
بيد أن النظر الى العالم الأوسع من ثقب النزاع مع إسرائيل لا يكفّ عن وضعنا وجهاً لوجه أمام حماقات تضيّق العقل وتصغّره، كما تُعجزنا عن إقناع أحد ممن يهمّنا إقناعه، بدليل حماستنا للمؤتمر. فنحن «أكثريّة العالم» كما قال أحمدي نجاد، إلاّ أن هذا لا يرتّب أيّة أولويّة لا في العلم ولا في المعرفة (والبرهان أن حركة الدراسة في الجامعات تتّجه من حيث الأكثريّات إلى حيث الأقليّات، والخبراء والأخصائيّون يتّجهون وجهة معاكسة). وينجرّ عن ذلك أنّنا مقتنعون بأنّنا على حقّ، لكنْ ما دمنا الأكثريّة، فلماذا يغيظنا أن تنكر الأقليّة علينا (وهي عنصريّة لا تفعل غير «إرسال» العنصريّين إلينا) حقّنا المؤكّد.
إن تجربة ديربان – 2 فصيحة الدلالة في لا جدوى الصلة بالعالم الخارجيّ. يكفينا عدد من «أصدقاء العرب» يأتون إلينا ونذهب إليهم، ونتبادل في ما بيننا كلمات لا يفهمها من هم خارج الحلقة أو الخليّة، ثم نفرح أشدّ الفرح ببعضنا العظيم.
الحياة