صفحات سورية

بيكر ـ هاملتون ـ كارتر ـ تشومسكي

null


وسام سعادة

ليس يُعرف من أين يؤتى بهذه القدرية الجازمة بأن كل شيء سيبقى معلّقاً «كما هو» في هذه المنطقة، ومن ضمنها لبنان، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، بل إلى ما بعد تسلّم الإدارة العتيدة للرئيس الأميركي الجديد مقاليد السلطة.

فإن كان من الصحيح التقدير بأن السنة الأخيرة للولاية الثانية لرئيس أميركي ليست بالموسم الذهبي للمبادرات الاستراتيجية النوعية، لا سيما ما اتصل بشن حروب تدخل، وإن كان سليماً القول بأن الرئيس جورج بوش الإبن لا يُحسد على شعبيته، الا أنه ينبغي مع ذلك التنبّه إلى جملة أمور. ففي المقام الأوّل، لا يمكن البناء على انخفاض شعبية جورج بوش الإبن في أواخر ولايته الثانية، لأنه نجح في انتزاع ولايتين رئاسيتين (والده لم ينجح الا في انتزاع واحدة، مع أنه جلب للعالم الغربي انتصاراً محققاً على المعسكر السوفياتي وعلى العراق)، ولأنه ما عاد يحق له الترشّح، ولأنّ من سمة الرئاسة الأميركية أن تنخفض شعبيتها في آخر سني الولاية الثانية حيث لا يحق لمتبوئ المنصب الترشح مرة جديدة، كما أنّ من سمّة التاريخ الرئاسي الأميركي أن يُصار بعد ذلك الى تقييم أكثر احاطة «وموضوعية» للرئيس الذي سلّم دفّة السفينة لخلفه.

لا شك أن شعبية جورج بوش الإبن والطاقم المعاون له ستنسحب بشكل أو بآخر على مجرى الانتخابات الرئاسية، لكن ذلك لن يحصل بطريقة ساذجة، ومباشرة، لأن الصراع بين الجمهوريين والديموقراطيين، وإن تكن له أبعاد ثقافية وأيديولوجية الا أنه ليس صراعاً بين شموليين يمينيين في مواجهة شموليين يساريين، ومهما كان مقدار الشعبوية في الحملة التي تستهدف المعسكر الحزبي الذي ينتمي اليه رئيس الاتحاد، الا أنّ ثمة حدوداً لا يمكن أن تتخطّاها هذه الشعبوية. لا يمكن التجديف في ما يعتبر شبكة «مصالح قومية». لا يمكن لأي مرشح رئاسي أن لا يبني برنامجه على صيغة معيّنة من الإجابة على سؤال: كيف تبقى الولايات المتحدة القوة العظمى الفائقة والمتعالية طيلة هذا القرن أيضاً؟ ليس السؤال المصدري إذاً: كيف يعاقب الرئيس المنصرم، أو كيف يعاقب حزب الرئيس المنصرم.

والانتخابات الرئاسية الأميركية ليست استفتاء على «الانسحاب الأحادي» من العراق، أو على «الحرب ضد ايران»، كما أن أي ترجمة بروتوكولية لوعد بوش بإقامة دولة فلسطينية قبل نهاية العام الحالي لن تزيد أو تنقص، وهكذا دعوة تشبه الى حد كبير خلع عقد من الحلي الزائف على جسم مقطّع الأوصال.

لكن هذه الانتخابات الرئاسية تجري في ظل ورشة مفتتحة في طول الشرق الأوسط الكبير وعرضه منذ حرب أفغانستان وإلى اليوم. وهذه الورشة لا تنتظر نتائج الانتخابات، لأن المتواجهين فيها ليسوا كلّهم مشاركين في الانتخابات، وليس صحيحاً، مهما كانت الدرجة الانتقادية الممكنة لظاهرة «باراك أوباما» ردّ ظاهرته الى صدى ترجيعات واحتقانات أولئك الذين يواجهون المصالح الأميركية والجنود الأميركيين في الشرق الأوسط. «الورشة» لا تعلّقها الانتخابات. المعركة الانتخابية لا تدور بين من يريد استكمال «الورشة» وبين من يريد «تصفيتها»، بل بين خيارات يحسب كل واحد منها انه الأقدر على التجذير، والاستكمال، بشروط أفضل، وعائدات أكثر، وتضحيات أقل.

ليس يعني ذلك أنّ كل الخيارات المطروحة على الأميركيين متماثلة. لكن التمايز يخضع للطابع الشامل للورشة المدشنة في اثر هجمات الحادي عشر من أيلول.

وهذا الطابع الشامل متعدّد الأوجه. فمن جهة بدأت الورشة بحربين كاسحتين (أفغانستان والعراق) ثم بحربي استنزاف ضاريتين ضد الجماعات المسلّحة في البلدين اللذين جرى اجتياحهما بيسر نسبي. ومن جهة ثانية، وعلى الرغم من ذكر ايران من بين دول محور الشر منذ البدء، الا أن العلاقة معها اتسمت بالتواطؤ حيناً، وبالتباطؤ حيناً آخر، لكن القلق من المشروع النووي الايراني قد تحول شيئاً بعد شيء الى موضع تقاطعات لا حصر لها، ولا حصر لمفارقاتها.

وعلى الرغم من هذا الطابع الشامل بوجوهه كافة، الا أن التعامل الأميركي لم يقلع عن «تجريبيته». الادارة نفسها، ادارة جورج بوش الابن، جرّبت خيارين. خيار المحافظين الجدد، وقد نجح في حمل الادارة على التدخل في أفغانستان والعراق، لكنه لم ينجح أبداً في ادارة الوضع في البلدين. وخيار الواقعيين القدماء، مع تقرير بيكر ـ هاملتون، الذي نجح الى حد كبير في التخفيف من وتيرة العنف في العراق، الا أنه خيار عاد والتبس كساداً وإظهاراً للضعف في غير أوانه. وفي هذا الصدد يمكن القول، إنه وكما وصل فريق المحافظين الجدد الى مشكلات مستعصية لم يكونوا مؤهلين لها، فإن الواقعيين القدماء يصلون في «اللحظة كارتر» الى الاستعصاء نفسه، لأن الهامش توسع بالشكل الذي يحيد عن الموضوع. فمن «بيكر ـ هاملتون» وصلنا الى ما يمكن الاصطلاح على تسميته «بيكر ـ هاملتون ـ كارتر ـ تشومسكي»، أي أن العلاجات التي وصفها «تقرير بيكر ـ هاملتون» قد جنحت لتمييع الإطار العام للنزاعات، في اللحظة نفسها التي حاولت ان تبحث فيها عن الإطار العام للتسويات، ما حدا بها الى تضييع الحدود التي تفصلها عن النقد «الشعبوي ـ التشومسكوي» الذي كم من السهل أن يوجّه الى أي ادارة أميركية، وكم من الحكمة أن لا يوجّه، طالما أن المنفعة منه قليلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى