إعلان دمشق: مرارة عاذليه وجحيم كارهيه
حسن الصفدي
لأمر ما لست من الموقعين على “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي”. لكنني أيدت صدوره، وإذا لم أكن مريداً فما المانع من أن أكون مؤيداً؟ فطلب الكمال من المحال.
وتفاءلت، طبعاً بصورة مختلفة عن أيام “ربيع دمشق” فقد ازدادت الخبرة وضاق المجال.
ودارت الأيام، وإذا ببعض موقعيه يكتشفون (في زعمهم)، ضلال ما كانوا قانعين بمشاركتهم إياه بكامل وعيهم.
ليس لأحد، عمل في المجال العام، سياسياً كان أم اجتماعياً، فترة طالت أو قصرت، توهم أن الإعلان يبعد عن كونه تعبيراً عن تحالف عريض لمجموعات متباينة التوجهات، وأفراد من مشارب شتى، وهذا أمر من صميم طبيعة الحياة السليمة فكرياً، تواضعوا على هدف رئيس، برز في عنوانه {التغيير الديمقراطي} وتركوا الشؤون الأخرى، بما فيها غير المتفق عليها، إلى حينها.
ربما لو كان للإعلان اسماً آخر، لكان لبعض عاذليه العذر في رجوعهم عما وقعوا عليه، بحجة أن تشكيلة الإعلان أوغلت في ممارسة الديمقراطية داخلياً، أكثر من المتوقع، أو مما هو مأمول، وربما أكثر من المرسوم ضمناً دون تصريح (ويا غيرة الدين). ومع ذلك تبقى حجة الرجوع واهية، فهم قد قبلوا مشاركة تنظيمات بعينها وأفراد بعينهم، معروفة أفكارهم جميعاً. وأخال أن ذلك يعني أن شأن أولئك الأفراد هو شأن المنضوين في تنظيمات أو مجموعات، أي أنهم في الانشغال والاعتقال سواسية. كما أنه ما سبق سماع أن هناك “كوتا إدارية” بدليل حصول انتخاب. ولا يحتججن أحد بمسألة الإبلاغ والحضور ففي مثل ظروفنا، انتظام ذلك الاجتماع وسلامة انعقاده دون شوائب، مصدر فخر للجميع، والتخلي عن ذلك، ولن أقول نبذه، أمر غير مفهوم.
فيما يخص اللبرالية يكاد يأخذني العجب من تهمتها، فأين نحن منها في بلدنا سورية؟! بل وفي عالمنا العربي؟ ربما هناك شيء من ملامحها في بعض الدول الإسلامية. أم أنه يكفي أن يكون شخص هنا وأخر هناك وثالث هنالك يقولون عن أنفسهم، أو نَسِمُهم، أنهم ليبراليون حتى يكون عندنا تيار ليبرالي. على ماذا كل هذه اللبرالية؟؟ يكفينا شيء من حرية الاعتقاد دون وَهَن أو نكوص والتعبير دون شجن أو تعزير، وأعتقد أن تسمية الشيء ووجوده أمران ليسا متطابقان بالضرورة. يكفي استذكار الشعارات والمصطلحات التي نادينا بها، وبعضنا مازال ينادي بها.
من جانب آخر. لماذا إطلاق التهم يميناً ويساراً؟! هل استقر الرأي على أن تلك النظرية/ العقيدة/ الإيديولوجية/ أما صواب كلها، أو هرطقة بمجملها؟ أليست مقاطعة الأخر ومدافعته والحجر عليه، هي الملمس المخملي للاستئصال؟؟!! أما ينبغي أن تحتك الأفكار فيما بينها حتى تتبلور مضامينها. أم أن علينا كلما قام بيننا خطيب هزّ رؤوسنا والتأمين على كلامه متظاهرين بالرضا سواءً أكنا مقتنعين أم لا.
سأسمح لنفسي برواية حادثتين صغيرتين جرتا معي في منتصف السبعينيات، بغية إيضاح إشكال حسّاس كامن في بنية تفكير الكثيرين منّا، مما يفقدنا إلى حد كبير رباطة جأش الموضوعية التي تعترف بالواقع كما هو، في حين أن هناك في هذا الواقع ما لا نؤمن أو نرضى بوجوده، ولا نريده أن يكون، بل ونكره ما يكونه.
في حديث مع صديق حميم، غزير الثقافة، هادئ النقاش، يحمل فكر الإخوان المسلمين، ما لبث أن مال الحديث عرضا إلى العَلمانية، فقال صديقي: العِلمانيون يقولون إن أصل الإنسان قرد!! فسألته من منهم قال ذلك؟ رد: داروين… قلت له يا صديقي: داروين عِلمي وليس عَلماني، ومع ذلك فهو لم يقل بهذا، والآن يشتغل تلاميذ تلاميذه على متابعة طريقه الذي تشعّب شُعباً. ومع ذلك فكتاب أصل الأنواع عندي وسأعيرك إياه، كي تكتشف بنفسك ما قاله داروين. فانتفض ورد بهدوء: أنا لا أقرأ مثل هذه الكتب… فسألته ولماذا؟ قال: إنه يوهن عقيدتي… فرددت عليه: يا لها من عقيدة تلك التي توهنها قراءة كتاب!! وخضنا في حديث غيره وافترقنا على وداد.
بعد أشهر من هذا الحديث زرت صديقاً حميماً ماركسي الهوى والانتماء، عميق المعرفة، بارع المحادثة. سألني: ماذا تقرأ في هذه الأيام؟ أجبته: روجيه غارودي. قال: أنا لا أقرأ لأمثال هذا… فتساءلت: ولمه؟ فقال: أنا لا أقرأ الغلط، أنا أقرأ الصحيح.. سألته: ومن أين لك أن تعرف الغلط من الصحيح إذا لم تقرأه بنفسك؟! فرد: هذا فيلسوف كبير، إنه يربكني. فقلت: وأنت أين عقلك؟ وتلك الثقافة العارمة التي تتمتع بها! ألا تكفيك لتجعلك تتبين الرشد من الغي؟! سأحكي لك يا صديقي ما جرى معي منذ مدّة. وحكيت له الحكاية السابقة، وأردفت: ما شاء الله اليمين واليسار على شاكلة واحدة، في رفض الفكر المخالف على الإطلاق. فيا لها من ثقافة توهنها قراءة كتاب أو اثنين بل ومئات..
تلاحظون أيها الأعزاء مدى اهتزاز الثقة بقدرة ما نعتقده على مواجهة أفكار الآخرين، فنسارع إلى رفض سماع الفكرة الجديدة بله قراءتها، وننبذ الآخر الذي يتحدث على غير المألوف، من تكرار ما سبق وإعادته، والإطناب في المديح بدءاً من نرجسية ذاتٍ مقهورة، فنحن (إنّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونْ) نخشى إعادة النظر/ البحث/ التنقيب/ المراجعة/ فما بالك بالتحليل النقدي لما قاله الآباء المنزّهين.
حسن الصفدي: ( كلنا شركاء ) 24/4/2008