الممانعون الإخباريون
حسام عيتاني
ثمة التباس كبير يطغى على ما يستورده بعض الممانعين من الغرب. يستخرج هؤلاء من ادبيات اليسار الاوروبي والاميركي على وجه الخصوص، ما يرونه إثباتات على افلاس سياسات الولايات المتحدة والعدائية المتأصلة في اداراتها، حيال شعوب المنطقة بل ما يشير الى ان دمار الغرب قد بات وشيكا.
تكاد اسماء من نوع تشومسكي وفنكلستاين، ناهيك عن عدد من صغار الكتاب والمعلقين المعترضين على نهج ادارة جورج بوش، ان تتحول الى تعاويذ مقدسة في خطاب الممانعين اللبنانيين والعرب. لقد اصبحت الاسماء هذه بمثابة البرهان الحي على فساد الغرب وصلاح المقاومين البلديين له، سيان كان المقاومون هؤلاء من طينة الزرقاوي او من ناشري الترهات في وسائل الاعلام وعبر اثيرها. المهم ان اميركيا قال كذا في مجلة ما، فهل من دليل اسطع وهل من قرينة اوضح؟
المخجل في هذه المقاربة انها تتناسى جملة من المعايير التي يتعين اخذها في الاعتبار عند تفحص ما يصدره هؤلاء الى بلادنا. المعيار الاول هو ان موقف هؤلاء الاعتراضي على سياسات حكوماتهم، لا يضعهم بالضرورة في حال تناحر معها، على ما يتصور بعض الممانعين عندنا. هم في بلادهم مواطنون يستخدمون حقهم في التعبير عن الرأي، وهو حق يعاقب عليه قانون الطوارئ المعمول به في العديد من الدول العربية. يضاف الى ذلك، انهم يقفون بشجاعة امام ما يعتبرونه ظلما ترتكبه بلادهم في حق الدول المتخلفة والفقيرة، مبررين لهذه حقها في المقاومة. لا شك في ان هذا الموقف ينطوي على قدر من النبل الاخلاقي.
وليس سرا ان الواحد من المعارضين الاميركيين يصر، عند قيامه بزيارة الى بلادنا على لقاء الشخصيات الاكثر اثارة للنفور في وطنه كنوع من رسالة الى حكومته بأن معارضته جذرية ونهائية ولا عودة عنها.
الصورة من الزاوية التي ننظر فيها نحن مختلفة تماما. ان مقولات الاكاديميين والكتاب المذكورين، لا تفيد في تشريح ظاهرة التسلط الغربي والاميركي وتقربها من الاذهان العربية، بقدر ما تساهم في تَسَيّد انظمة الاستبداد والاقليات العسكرية عندنا. واذا كان المعارضون الغربيون غير معنيين بتفاصيل المعارك التي تخاض هنا لرفع نير الدكتاتوريات المختلفة (والمتخلفة)، فإنهم في واقع الامر يزودون الانظمة هذه بذرائع وحجج لا تنفك تلجأ اليها لتبرير كل صنوف الاضطهاد الذي تنزله بمعارضيها.
بين جانبي هذه المعادلة، بين مقدمي الذرائع الغربيين والحكام «الممانعين»، تظهر فئة ممن يمكن وصفهم بالمقاومين «الإخباريين»، على طريقة المدرسة الإخبارية في التقليد الفقهي الشيعي. وعلى النحو الذي ادخلت المدرسة هذه كل ما يعقل وما لا يعقل من صنوف الاقاويل الى متن احاديث اهل البيت وسعت الى انشاء فقه يتأسس على اعتبار الاحاديث المنحولة والضعيفة وعديمة الإسناد جزءا من الشريعة الإسلامية، يأتي المقاومون «الإخباريون» بشتات من الآراء والأفكار، بعضها مما نبشوه في مقالات الممانعين الاميركيين، وبعضها مما تفتقت عنه قرائحهم، للقول بضرورة ارجاء كل نقاش يتعلق بمستقبل الشعوب العربية وحقوقها ومصالحها، الى حين إلحاق الهزيمة بالمشروع الامبريالي والهجمة الصهيونية…. الخ
بفعلهم هذا، لا يكون المقاومون الإخباريون يقومون بأكثر من تكريس حال التفتت العربي ودفع مجتمعاتنا الى المزيد من الانكشاف والتجوف وافقادها للمناعة في مواجهة أي حدث ذي خطر. ولعل تجربة العراق غنية بالعبر في هذا المجال.
والانكى ان ابواب النقد مقفلة امام هذا النوع من اللغو. دعونا نقدم مثالا قريبا. لقد وجه الكاتب الراحل ياسين الحافظ نقدا جديا وعميقا لطروحات الثورة الفلسطينية وزعمها انها تكرر التجربة الفيتنامية، مبينا اوجه الاختلاف الكبرى بين ما كانت تدعيه الفصائل الاكثر تطرفا من الفصائل الفلسطينية وبين ما كان يجري في فيتنام. لكن اصحاب النظريات الثورية، يرفضون المقايسة ويفضلون الاستدلال، على ما يقال في الفقه، ما يفضي الى ان تأتي استدلالاتهم في غير موضعها وخلوا من أي معنى، تماما كالطريقة التي يفهمون بها ما يعلنه المعارضون الاميركيون والغربيون لسياسات حكوماتهم.
لكن هل سينتهي طوفان الهذيان الشعبوي هذا المتحالف مع حكومات الاستبداد والجماعات الظلامية؟ في الاغلب الاعم ان من استطاع بناء مواقع ومن حقق امتيازات، لن يتخلى عنها حرصا منه على الموضوعية وعلى دور النقد في صياغة وعي سياسي قابل للحياة وقادر على تغيير الواقع. فهذان نقيضان لا يلتقيان. بل ان المرجح هو اصرار الحواة والبصارين الاسـتراتيجيين على دفع جمهورهم الى المــغامرة تلو الاخرى، العسكرية منها والسياسية والفكرية، لتنتهي جميعها الى المزيد من الاحباط والخذلان والانحطاط.