النيويورك تايم ترد على بوش: لا نـــمـــلـــك وقــــتــــاً في الــعـــراق

صرّح الرئيس بوش الأسبوع الماضي أنه قال لقائد حربه في العراق، الجنرال ديفيد بترايوس، إنه “سيكون لديه كل الوقت الذي يحتاج إليه”. نعرف معنى ذلك. معناه أنه يجب ألا يشعر الجنرال، شأنه في ذلك شأن الحكومة العراقية، بأي ضغوط لإيجاد طريقة للخروج من هذه الحرب الكارثية. ويعني أنه حتى بعد عودة عشرين ألف جندي إلى ديارهم، سيبقى هناك نحو 140 ألف جندي أميركي يقاتلون هناك – من دون خطة لإجراء مزيد من الانسحابات ولا خطة لقيادتهم إلى النصر.

ويعني ذلك، كما شككنا دائماً، أن الاستراتيجيا الحقيقية الوحيدة لبوش في العراق هي تسليم الفوضى إلى خلفه. لقد أعطى بوش نفسه كل الوقت الذي يحتاج إليه للهروب من واحد من أكبر الإخفاقات الاستراتيجية في التاريخ الأميركي.

لم يحاول الجنرال بترايوس والسفير الأميركي في بغداد، ريان كروكر، إخفاء أي من هذه الأمور في تقرير “متابعة المسار” للسنة 2008. فقد تضمّنت إفادتهما أمام الكونغرس المزاعم الإلزامية عن التقدّم العسكري والسياسي إنما مع تفاصيل أقل بكثير من تلك التي وردت في تقرير “متابعة المسار” لعام 2007. ولم يزعج السيد كروكر نفسه حتى بعرض جداول تقوّم الأداء العراقي استناداً إلى المعايير السياسية. أما جداول الجنرال بترايوس فقد أظهرت أن عدد الجنود الأميركيين سينخفض إلى نحو 140 ألفاً هذا الصيف – لكنها اكتفت بهذا القدر فقط. وعندما ألحّ عليه أعضاء الكونغرس ليشرح لهم ما الذي يمكن أن يتغيّر على الأرض ويدفعه إلى الموافقة على إجراء مزيد من الانسحابات، لم يكن لديه جواب.

من المؤكّد أنه لا يتعرّض لأي ضغوط من البيت الأبيض كي يتوصّل إلى جواب. وكما يقولون في الجيش، يقترب بوش من نهاية خدمته، فلماذا سيقلق؟

وأياً كان من يفوز بالرئاسة، لن يحظى بالترف نفسه. سوف يكون عليه أو عليها أن يبدأ/تبدأ بسرعة التخطيط لانسحاب منظّم. حتى السناتور جون ماكين سيكون عليه أن يدرك أنه ليس بإمكان القوات الأميركية أن تحافظ على هذه الوتيرة لوقت طويل بعد. في مطلع هذا الشهر، أوردت صحيفة “التايمز” أن نوبات الخدمة المتكرّرة في ساحات المعركة أصابت الجنود الأميركيين بالوهن إلى درجة أن قادة الجيش يقلقون على صحتهم العقلية. والأسبوع الماضي، حذّر الجنرال ريتشارد أ. كودي، نائب رئيس الأركان في الجيش، الكونغرس من أن الطلب على الجنود في العراق وأفغانستان “يتجاوز العرض القابل للاستدامة“.

خفّض بوش مدة خدمة الجنود في العراق من 15 إلى 12 شهراً، لكن البنتاغون قال إن ذلك لن يخفّف الضغوط على الجنود وعائلاتهم أو يسمح للولايات المتحدة بأن ترسل إلى أفغانستان التعزيزات التي هي بأمس الحاجة إليها هناك.

كما أن الاقتصاد الأميركي المتداعي لا يستطيع أن يتحمّل تكاليف هذه الحرب التي لا تنتهي. لقد اعتبر بوش أن مبلغ 108 مليارات دولار الذي طلبه للإنفاق بداعي الطوارئ، هو مبلغ “منطقي” وهذا دليل على أنه بعيد عن الواقع المالي. ومحاولته تبرير الكلفة الإجمالية التي بلغت 600 مليار دولار حتى الآن عبر مقارنة حربه بالحرب الباردة والحاجة إلى وقف “التوسّع السوفياتي”، تظهر أنه أكثر بعداً عن الواقع الاستراتيجي.

نحن نعتبر أن القتال ضد تنظيم “القاعدة” هو المعركة الأساسية لهذا الجيل، لكن زعم بوش بأن العراق هو الجبهة الأساسية خطأ. الجبهة الأساسية هي أفغانستان، والولايات المتحدة مهدّدة فعلاً بالخسارة لأن مغامرة بوش الفاشلة في العراق تستنفد موارد البنتاغون وانتباهه.

من الواضح أن بوش لا ينوي وضع استراتيجيا للخروج، لكن ما زال بإمكانه اتخاذ خطوات تمنح خلفه فرصة أفضل لاحتواء الفوضى بعد رحيل الجنود الأميركيين. ينبغي عليه أن يضغط لإجراء إصلاحات سياسية. كان يُفترَض بزيادة عدد الجنود الأميركيين أن تمنح السياسيين العراقيين متنفّساً لإجراء الإصلاحات السياسية الضرورية. ولكنهم لم يتّفقوا بعد على قانون لتوزيع الثروة النفطية للبلاد بصورة منصفة، أو على قواعد للانتخابات في المحافظات المزمع إجراؤها هذا الخريف.

وقد أكّدت التصرّفات في واشنطن الأسبوع المنصرم ما يعرفه العراقيون: يمارس الرئيس الخداع وحسب. وقد يكون بوش أوفر حظاً إذا أخبر رئيس الوزراء نوري المالكي الحقيقة: إذا فاز الديموقراطيون في تشرين الثاني، فمن المؤكّد أن أيام التمكين ستنتهي، وعلى الأرجح أن هذا ما سيحصل أيضاً حتى لو فاز الجمهوريون بالبيت الأبيض. إذا عرف القادة العراقيون أن الأميركيين لن يكونوا موجودين لضمان بقائهم، فقد يبدون انفتاحاً أكبر للتوصّل إلى تسوية.

فليدفع العراقيون الفاتورة

حتى بعض الجمهوريين الأشد تحمّساً للحرب في مجلس النواب الاميركي ينضمّون إلى الديموقراطيين للمطالبة بأن يبدأ العراقيون تسديد تكاليف التدريبات العسكرية وفاتورة الوقود الذي يستهلكه الجنود الأميركيون. وقد يكون لهذا الأمر علاقة كبيرة بغضب الناخبين من ارتفاع أسعار البنزين وأزمة الرهون العقارية والاقتصاد المتعثّر.

تشير التقديرات إلى أن الحكومة العراقية تحتفظ باحتياطي يبلغ 27 مليار دولار في المصرف المركزي العراقي، وبـ30 مليار دولار في مصارف أميركية وعشرات مليارات الدولارات في مصارف أخرى. إذا فُرِض على المسؤولين العراقيين دفع جزء أكبر من الفاتورة، فقد يظهرون حماسة أكبر للتركيز على الإصلاح السياسي والتدريب العسكري المحسَّن.

أجروا نقاشات فعلية مع الجيران

أعلن بوش أنه سيرسل ديبلوماسيين أميركيين رفيعي المستوى إلى المنطقة لحضّ الدول العربية على بذل المزيد من الجهود لمساعدة العراق، بدءاً بإعادة فتح سفاراتها في بغداد. وسوف تشارك وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في مؤتمر لدول الجوار، واجتماع آخر للحصول على تعهدات بالمساعدات.

لكن المشكلة أبعد بكثير من السفارات والمساعدات. ليس المقاتلون الأجانب المحرّك الأساسي للحرب لكنهم مشكلة قاتلة. وعندما ينسحب الجنود الأميركيون، سيكون إغراء التدخل – من جانب إيران وسوريا إنما أيضاً تركيا والسعودية – كبيراً جداً. يجب أن تفهم كل هذه البلدان أن الفوضى في العراق تشكّل تهديداً للجميع، وأنه ليس هناك ما يضمن بأنها لن تعبر الحدود العراقية. ولن يسمح مزيد من الاستقواء والوعيد من جانب الرئيس بإيصال تلك الرسالة. ولا الخطب المعلّبة في المؤتمرات تستطيع أن تفعل ذلك أيضاً. يجب أن يرسل بوش المسؤولين الكبار في إدارته لإجراء نقاشات مباشرة وجدية مع كل جيران العراق، بما في ذلك إيران وسوريا.

اللاجئون

يُقدَّر عدد اللاجئين العراقيين الآن بمليونين وأربعمئة ألف – معظمهم في سوريا والأردن – وهناك مليونان وسبعمئة ألف عراقي نازح داخل العراق. تتحمّل الولايات المتحدة مسؤولية مباشرة في هذا الإطار، ويجب أن تبذل مجهوداً أكبر بكثير لمساعدة هؤلاء الأشخاص على الصمود والعثور على ملاذ آمن في العراق أو في بلدان أخرى. وينبغي عليها أيضاً أن تطلب – بتواضع وإلحاح – المساعدة من حلفائها في أوروبا وآسيا والمنطقة. إلى جانب المعاناة البشرية التي لا تُحتمَل، من شأن تدفّق اللاجئين بأعداد كبيرة أن يؤدّي إلى تفشّي النزاع ليمتد بعيداً جداً خارج الحدود العراقية. ولا يمكن الاستمرار في تجاهل هذه المشكلة.

تقويم صادق للجيش العراقي

تشوّش الإدارة الحالية الحقائق عن العراق منذ وقت طويل إلى درجة أنه يجدر بنا ربما أن نشكر المالكي لأنه سمح لنا أخيراً بأن نرى الواقع على حقيقته من خلال قراره إرسال قوات عراقية إلى البصرة لطرد الميليشيات الموالية لرجل الدين المتشدّد مقتدى الصدر. لم يكن مشهداً جميلاً. فقد رفض ألف جندي عراقي وشرطي القتال أو تركوا الخدمة. انتهت المعركة من دون منتصر، وبعد تدخّل الإيرانيين للمساعدة على التوصل إلى وقف للنار. يدين الرئيس بوش والجنرال بترايوس للبلاد بتقويم متين وصادق لبرنامج التدريب الأميركي، بدءاً بالخطأ الذي وقع في البصرة. ما الذي يجب تغييره الآن لتعزيز فرص الجيش العراقي ليتمكّن من خوض معاركه في نهاية المطاف؟ وما هي المدة المطلوبة فعلياً لتحقيق ذلك؟

يملك بوش قدرة لامحدودة على الإنكار. ربما يظن أن الرئيس المقبل سيكمل هذه المغامرة الفاشلة ولن يضع تصوراً لإنهائها أو يفكّر حتى في إنهائها. وحتى لو كان ذلك صحيحاً، فهو يدين لخلفه بأن يستعمل الأشهر التسعة المتبقّية له في الحكم كي يحاول معالجة المشكلات الكثيرة في العراق. لن يغفر له ذلك إخفاقاته المتسلسلة. لكنه قد يعزّز الفرص ليكون الانسحاب المحتوم منظّماً قدر الإمكان.

لدى بوش كل الوقت الذي يحتاج إليه، لكن المدنيين الذين يعانون في العراق لا يملكون الوقت، ولا الأعداد الكبيرة من اللاجئين، ولا القوات المسلحة الأميركية المضرّجة بدمائها والمنهوكة القوى، ولا الشعب الأميركي.

افتتاحية “نيويورك تايمز“

(ترجمة ن. ن.)