نحو مواجهة جدية مع الفكر الطائفي في لبنان
مسعود ضاهر
الفكر الطائفي موروث قديم رافق تحوّل الأديان إلى طوائف من جهة، واستخدام الدين في السياسة من جهة أخرى. وقد استند إلى مؤسسات وزعامات محلية سابقة على ولادة الدولة العصرية، وشكلت القاعدة الأساسية لها في الحالة اللبنانية. وهناك دراسات علمية شمولية عالجت انقسامات الدين إلى طوائف أبرزها كتاب الشهرستاني: «الملل والنحل». بالإضافة إلى مئات الدراسات التي تناولت المسألة الطائفي في لبنان من زوايا مختلفة.
شكلت المؤسسات الطائفية ركيزة أساسية صلبة من ركائز المجتمع الأهلي التي تهتم بشؤون أبناء الطائفة أو الملة الصحية منها والسكنية والتعليمية والخيرية والدينية والاقتصادية وغيرها. وبسبب فشل بناء الدولة الوطنية في لبنان استمر عمل المؤسسات الطائفية بعد الاستقلال مما ساعد على تعميق النزعة الطائفية لدى اللبنانيين وتحولها إلى مذهبية أضعفت كل أشكال الانتماء الوطني في لبنان وباتت عقبة حقيقية تمنع استمرار الدولة اللبنانية وتجددها على أسس ديموقراطية ووطنية سليمة.
على جانب آخر، تعمل المؤسسات اللبنانية غير الطائفية إلى نشر الفكر الوطني الذي يدعو إلى مساواة حقيقية بين اللبنانيين. وهي تضم جميع مؤسسات المجتمع المدني ذات التوجه الشمولي غير الطائفي أو المذهبي وتستقطب الفئات اللبنانية الذين يتجاوزون حدود طوائفهم ويتصرفون كمواطنين أحرار ومتساوين في الحقوق والواجبات في دولة عصرية تقوم على حكم القانون والمؤسسات وتتعاون إلى أقصى حدود التعاون مع مثيلاتها في الدول العربية الأخرى.
شهد الفكر الطائفي في لبنان ثلاث مراحل متعاقبة: الطائفية المستقرة أو الموروثة، والطائفية المتفجرة تحت وطأة النزاعات المحلية بين زعماء الطوائف، لكنها ذات صلة بمشاريع إقليمية ودولية، والطائفية المدمرة التي تمنع بناء الدولة الوطنية، أو تجددها، وتقطع الطريق على النهوض القومي العربي. في المقابل، شهد لبنان مرحلة النهوض الوطني والقومي الذي تجلى بنضال اللبنانيين ضد الحكم العثماني ثم ضد الانتداب الفرنسي وتحقيق الاستقلال بفعل التضامن القومي العربي والمساندة الدولية. وشدد البيان الوزاري لأول حكومة استقلالية على عروبة لبنان واعتبر اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة فيه، ورفض الطائفية بوصفها وصمة عار على جبين لبنان واللبنانيين ودعا إلى تجاوزها. وقد رافق اللبنانيون، وبحماس كبير جميع حركات التحرر في الوطن العربي وساندوها بقوة. ودعموا القضية الفلسطينية بكل ما لديهم من إمكانات، وقاتلوا ضد المشروع الاستيطاني الصهيوني، ورفضوا توطين الفلسطينيين في بلاد الشتات ومنها لبنان. لكن هزيمة 1967 أدت إلى تراجع الفكر القومي العربي وعجزه عن مواجهة المشروع الاستيطاني الصهيوني الزاحف بين الفرات والنيل، والمدعوم من الولايات المتحدة وغالبية دول العالم. فاكتفى العرب بتأسيس جامعة للدول العربية جمعت كل سلبيات النظام الإقليمي العربي.
وامتلأت الساحة العربية بشعارات جميلة لم تنفذ، منها: نفط العرب للعرب، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وفلسطين رأس الحربة في النضال العربي المشترك، وكثير غيرها. وخاضت الدول العربية بصورة مفككة في غالب الأحيان، حروباً متلاحقة ضد إسرائيل إلى أن أصيب المشروع القومي العربي بضربة أعادت تفكيك العرب، وأنعشت الانقسامات السابقة على قيام الدولة الوطنية ومنها الطائفية والقبلية والمذهبية والعرقية. فكان لبنان من أبرز تجلياتها، وجرى مؤخراً نقل كامل سلبيات النموذج اللبناني الطائفي إلى العراق.
بعد حرب أهلية استمرت خمسة عشر عاماً (1975 ـ 1989) وما زالت تداعياتها السلبية مستمرة حتى الآن، رجع اللبنانيون إلى مرحلة ما قبل ولادة الدولة الحديثة في لبنان. فانتقلوا من مجتمع الحرب إلى مجتمع السلم بقيادة زعماء الحرب أنفسهم. وهيمنت ذهنية الميليشيات الطائفية والمذهبية على مؤسسات الدولة اللبنانية وأعاقت عملها وإعادة تجددها على أسس وطنية سليمة. فبات اللبناني عاجزاً عن امتلاك وعي وطني في ظل ممارسات طائفية مدمرة. ولم يعد بمقدوره ممارسة حريته في ظل أحزاب ومنظمات طائفية ومذهبية تغلب الوعي الطائفي على الوعي الوطني. ويفتقر لبنان اليوم إلى المواطنية الجامعة وممارسة الحد الأدنى من احترام مبادئ المساواة بين اللبنانيين بصفتهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.
وبعد أن سدت أبواب العمل بصورة شبه تامة أمام الشباب اللبناني، اختار طريق الهجرة إلى الخارج من دون رغبة بالعودة إلى وطن يحكمه زعماء الطوائف والميليشيات، ولا يتركون لشعبه القدرة على تأمين مقومات الحياة الكريمة وبناء عائلة مستقرة.
لقد عادت مشكلة بناء الدولة العصرية في لبنان ودول عربية أخرى بشكل حاد، وعلى أسس وطنية غير طائفية. وهنا تطرح أسئلة منهجية تتفرع من السؤال الأساسي: ما العمل؟
فهل إلغاء الطائفية السياسية هو أفضل الحلول للأزمة الطائفية في لبنان؟
في اعتقادي، لا يمكن إلغاء الطائفية السياسية إلا في إطار إصلاح تدريجي لمعوقات بناء الدولة العصرية غير الطائفية. فإلغاء الطائفية السياسية يأتي في سياق تطبيق الديمقراطية والعلمانية والليبرالية. إذ كيف تلغى الطائفية السياسية في مجتمع يولد طوائف وأجيالاً طائفية؟ ومن أولى واجبات اللبنانيين اليوم تجاوز الطائفية وبناء دولة المؤسسات والقانون والحكم الصالح والتنمية البشرية والاقتصادية المستدامة.
وهل إلغاء الطائفية يعني إلغاء الطائفة نفسها؟
إلغاء الطائفة نوع من التصور الوهمي. فالإنسان اللبناني متمسك بطائفته قبل ولادة الدولة اللبنانية وبعدها. ووجود الدين أمر طبيعي حتى في أرقى دول العالم والأكثر ديموقراطية. لكن المشكلة في الطائفية هي تسييس الدين. ومن غير المحتمل أن تزول الطوائف في لبنان على المدى المنظور، وقد تبقى الطائفية مئات السنين. لكن الصيغة السياسية التي بُنيت عليها الدولة اللبنانية غير عملية وغير عقلانية. وليس من شك في أن دولة ديموقراطية علمانية ترعى شؤون الطوائف أكثر من النظام الطائفي الحالي.
وهل الصراع في لبنان طائفي أم سياسي تلعب الطائفية دوراً فاعلاً فيه؟
لقد شهد تاريخ لبنان صراعاً عنيفاً بين زعماء العائلات والطوائف. فالصراع على الزعامة هو في أساس النزاعات اللبنانية. وليس في تاريخ الطوائف اللبنانية ما يؤكد على وجود طائفة متضامنة أو موحدة بالكامل. على العكس من ذلك، فالخسائر البشرية غالباً ما تكون أكبر في الصراع على زعامة الطائفة وليس مع الطوائف الأخرى. وهو يتطور من الصراع على زعامة الطائفة إلى الصراع على زعامة المنطقة وصولاً إلى الصراع على الزعامة في لبنان. أما التضامن الطائفي الكامل فغير موجود في لبنان، وغالباً ما يكون مرحلياً إذا وجد.
لا خلاص للبنان إلا بالمواجهة الجدية مع الفكر الطائفي. فصعود الفكر الطائفي بشكل قوي جداً يحمل معه مشاريع مذهبية خطيرة تهدد وجود لبنان ومنطقة المشرق العربي بأكملها. إذ تشهد هذه المنطقة تناقضات داخلية لا حصر لها، منها القبلية والطائفية والمذهبية والعرقية والزعامة الفردية. وقد استدرج زعماء الطوائف تدخلات إقليمية ودولية لديها مشاريع معلنة لتفكيك المنطقة العربية وإعادة تركيبها وفق توجهات مستقبلية تخدم مشروع الشرق الأوسط الكبير. وقد شكل الفكر الطائفي والمذهبي، وما زال، سنداً قوياً لدعم المشروع الصهيوني. وهو يمنع الآن بناء الدولة الوطنية في لبنان أو حتى تجددها على أساس الميثاق الوطني.
لعل من أولى واجبات اللبنانيين اليوم منع الطائفية المتفجرة من التحول إلى طائفية مدمرة. والمطلوب تكاتف الجميع لإعادة لبنان بسرعة إلى مرحلة الطائفية المستقرة بعد شحن شباب الطوائف لدرجة تهدد بانفجار حرب أهلية جديدة اعتقد اللبنانيون أنهم تجاوزوها. إذ لم يتعظ اللبنانيون من ويلات الحرب الأهلية السابقة، ولم يحولوها إلى مادة علمية تدرس في المدارس والجامعات لاستخلاص الدروس من ويلاتها.
وقد تكون لدى حكماء اللبنانيين والعرب القدرة على منع تجدد الحرب وتهدئة صعود الفكر الطائفي. لكن ذلك لم يعد كافياً. فالنزاعات الطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية تهزّ بشدة ركائز بعض الدول العربية. وأصبح الفكر الطائفي أداة مجربة لتفجير عدد من الدول العربية بعد أن تم اختباره في العراق في ظل الاحتلال الأميركي.
ختاماً، لقد بات لبنان أمام خيارات جذرية تتطلب حلولاً عقلانية تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة وتحدياتها. فتجاوز الفكر الطائفي يتطلب مقولات نظرية جديدة تصلح كركائز صلبة لبناء دولة وطنية تتلاءم مع متطلبات عصر العولمة وهي: الديموقراطية الحقيقية على المستوى السياسي، والليبرالية المراقبة على المستوى الاقتصادي، والدولة العصرية القادرة على إدارة مجتمع متعدد الطوائف والعصبيات. وليس من شك في أن الصيغة الوطنية غير الطائفية هي الأمثل لبناء دولة ديموقراطية عصرية يتساوى فيها اللبنانيون بمعزل عن انتماءاتهم الطائفية.
السفير 26/5/2008