عن القضية الكردية في سوريا
مازن كم الماز
في انتفاضة آذار 2004 في القامشلي و بعض التحركات التي جرت في دمر و بعض التجمعات الكردية كان من الممكن لهذا الحدث أن يطلق شرارة الثورة في سوريا لكن هذا لم يحدث..تعامل بقية السوريين بلا مبالاة , عدا النظام طبعا و أجهزته , مع انتفاضة الجماهير الكردية و في بعض الأحيان حتى بشيء من الشك أو الرفض..في رومانيا مثلا كان الوضع مختلفا , فقد بدأت الثورة ضد نظام تشاوشيسكو من تيميشوارا ,
بدأت بمظاهرات عفوية قام بها رومانيون من أصل مجري ثم انتقلت شرارة التمرد عبر رومانيا , لكن في سوريا 2004 بقيت الجماهير تتفرج , من المؤكد أن لقمع النظام دور هام في هذا الاحتواء الناجح لانتفاضة القامشلي لكن من المؤكد أيضا أن هناك إسفين دقه النظام , إلى جانب الظروف الموضوعية لتشوش قضية التغيير و الثورة في سوريا , بين الجماهير السورية صاحبة المصلحة في التغيير..لا يقتصر هذا فقط على العلاقة بين الأكراد و العرب , بل على العلاقة أيضا بين الطوائف السورية خاصة الأغلبية السنية و طوائف الأقليات..في موضوع الأكراد السوريين مثلا , كان هؤلاء هم الضحية الأولى “المحلية” لصعود الخطابات القومية و وصولها إلى كرسي السلطة , أصبحت محاولات طمس الهوية القومية للأكراد و حرمانهم من حقوقهم القومية و حتى في بعض الأحيان من حق المواطنة جزءا ثابتا من سياسات الأنظمة الحاكمة , إلى جانب محاولات دائبة لتعريب مناطق كردستان سوريا..استخدمت الأنظمة قبائل عربية في عملية التعريب هذه و هذا ما خلق حالة موضوعية , و لو أنها مصطنعة , من التناقض بين الجماهير العربية و الكردية..هذه “التناقضات” بين الجماهير ليست فقط هامة جدا بالنسبة للنظام , من المؤكد أن نتائج انتفاضة القامشلي دليل ساطع على هذا , بل إنها تهدد مفهوم التغيير نفسه , مدى جذريته و تعبيره عن مصالح الناس , و خاصة و قبل كل شيء تعريف الحرية و ممارستها على أنها حكم الجماهير نفسها بنفسها..لا تتعلق قضية التغيير بطائفة أو بقومية أو أثنية أو دين الرئيس أو الزعيم أو النخبة الحاكمة..إن التغيير الذي يعني الجماهير أو الناس هو تغيير يقلب كل قواعد الحكم حتى اليوم ليصبح الناس من كل الطوائف و القوميات و المذاهب و الأثنيات هم الحكام الفعليون و أولا و قبل كل شيء هم أصحاب الثروات الوطنية , فعليا و ليس كما في حالة العراق أو لبنان عبر قيام نخبة سياسية أو اجتماعية أو طائفية أو دينية بالسيطرة على الحكم و على ثروات البلد “نيابة” عنهم أو , في الواقع , فوقهم و خارجهم بل و حتى ضدهم..يتفق الجميع , من منظري الاستبداد إلى الليبراليين الجدد و القوميين و الأصوليين , على أن الجماهير غير مؤهلة لتحكم نفسها بنفسها و أنها بحاجة إلى وصاية النخب حتى إشعار آخر , هذه القضية خارج الجدل الفعلي بين النخب المتصارعة اليوم..هنا يواجهنا الارتباط الحتمي بين طبيعة التغيير و بين وسيلته , بين مضمونه و جوهره و بين دور الجماهير في فرضه على النظام القائم أو بالعكس في فرضه على الجماهير..يمكن أن نذكر هنا انتفاضة آذار 1991 في شمال و جنوب العراق بعد هزيمة نظام صدام في حرب الخليج الأولى..كانت الانتفاضة شعبية بامتياز و حتى عفوية في بداياتها , لا يستطيع أحد أن يدعي , عدا الجماهير العراقية نفسها , المسؤولية الفعلية عنها , كما أن الهيئات التي قامت في المناطق التي سيطر عليها الثوار لم تخضع عمليا لأية قوة بمفردها لا في الجنوب الشيعي و لا في كردستان , كانت هناك بالفعل ديمقراطية جماهيرية أكبر من أي تنظيم أو حزب , بل إن دور هذه التنظيمات و الأحزاب كان على العموم ثانويا , في مقابل سيطرتها الكاملة اليوم على السلطة و الثروة , عدا عن أنها في بعض الأماكن التي سيطرت فيها على الثورة قامت بممارسات انتهازية و خاطئة و حتى استسلامية..كان تلكؤ بعض المدن في الانضمام للثورة عندما كان النظام ضعيفا أي قبل أن يسمح الأمريكان المنتصرون للنظام باستخدام المروحيات ضد الانتفاضة و بعودة آمنة لقوات الحرس المخلصة للنظام , و بالتحديد عدم انتفاض جماهير العاصمة بغداد , كان هذا , إلى جانب التدخل الأمريكي المباشر , هو ما أدى إلى تسهيل عملية انقضاض النظام على المناطق و الجماهير المنتفضة..ليس مستغربا أن انتفاضة آذار 1991 لا تذكر في أدبيات القوى الحاكمة في العراق اليوم , و أن التركيز يجري بالمقابل على يوم 9 نيسان أبريل..كان هناك وضع مشابه في 1979 في إيران عندما كانت هناك سلطتان بعد أن أطاحت الجماهير الإيرانية بنظام الشاه , سلطة عمالية جماهيرية تعتمد على المجالس العمالية , و أخرى رسمية كانت تتبع “المرجعية الدينية” أو الحوزة , و هي هنا تمثلت في الإمام الخميني , و هي سلطة ذات تأييد شعبي لكنها كانت تعمل بإصرار على نقل السلطة إلى مجموعات الفقهاء أو الحزب الإسلامي الجمهوري الذي يمثل المرجعية أو الحوزة بتعابير اليوم..كانت هناك سلطتان “تتعايشان” مؤقتا , سلطة جماهيرية ديمقراطية و سلطة النخبة الدينية التي تمكنت أخيرا من تنفيذ انقلابها موجهة تهمة الخيانة و الإلحاد إلى اليسار الإيراني و إلى أعضاء مجالس العمال مستفيدة من ظروف الحرب مع نظام صدام و فارضة نظاما إرهابيا و لو أنه كان ما يزال يتمتع بشعبية كبيرة جراء استخدامه الخطاب الديني التكفيري الشعبي..في كردستان العراق استعاد الحزبان الرئيسيان موقعهما من جديد مع انسحاب أجهزة نظام صدام في أكتوبر تشرين الأول من عام 1991 من كردستان العراق و بعد صراع مسلح في بعض تفاصيله 1994 – 1996 تم أخيرا استكمال بناء سلطة نخبوية فوقية زاد من شرعيتها أنها السلطة “الأمثل” في مخاطبة الأمريكان و إدارة العلاقة معهم , هذه العلاقة التي ينسب إليها كل الفضل في تحقيق الأهداف القومية للشعب الكردي بعد طول قهر و اضطهاد..تقوم علاقة هذه السلطة مع الجماهير العربية السنية و الشيعية على أساس العلاقات الفوقية “التنافسية” أساسا مع النخب “الممثلة” لتلك الجماهير , هذا من جهة , و من جهة أخرى على عزل كامل للجماهير الكردية عن بقية الجماهير العراقية و الإيرانية و السورية و التركية شريكة الاضطهاد على أيدي هذه الأنظمة , طالما أن الأمريكان , القوة الأكبر في العالم حاليا , يدعمون قيام سلطة مستقلة عمليا في كردستان العراق..يشبه هذا الوهم ما جرى ذات يوم في كردستان إيران عندما نشأ أول كيان سياسي قومي للأكراد في التاريخ المعاصر عندما استفادت الحركة الكردية الصاعدة في إيران من وجود القوات السوفيتية في إيران في النصف الأول من الأربعينيات من القرن الماضي لتقيم جمهورية مهاباد الديمقراطية الشعبية..سمحت التوترات المرتبطة بنشوب الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي و القوى الغربية الداعمة لنظام الشاه في طهران يومها لهذه الجمهورية بأن تعيش حتى 1946 , عندما أدت خيانة ستالين للأكراد و قراره سحب القوات السوفيتية بعد تسوية مخزية مع القوى الغربية و نظام طهران إلى ترك هذه الجمهورية نهبا للقوات الإيرانية التي اقتحمتها في ديسمبر كانون الأول 1946 و قامت في مارس آذار 1947 بإعدام رئيس تلك الجمهورية قاضي محمد و عدد من معاونيه , الذي اختار بشجاعة ألا ينسحب مع القوات السوفيتية و أن يواجه الموت على يد القوات الإيرانية الغازية..خلافا لوهم المراهنة على الأمريكان فإن الأمل الحقيقي لحركة التحرر الكردية يرتبط بشكل صميمي بتحقيق التغيير الديمقراطي الجذري في سوريا و إيران و تركيا و العراق , ببناء سلطة الجماهير في كل هذه الدول , الذي سيعني بناء سلطة الجماهير الكردية على أرض كردستان..إن النضال الفعلي اليوم لتحقيق التغيير الفعلي الجذري في سوريا لصالح الناس العاديين , لصالح كل الناس العاديين من كل الطوائف و القوميات , يتطلب العمل على توحيد كل جهودهم , كل نضالاتهم , ضد القمع و ضد الاضطهاد و الاستغلال الذي يمارسه النظام , من أجل قيام سلطة الجماهير..أن تشارك الجماهير العربية , حتى تلك التي يستدعيها النظام لطمس هوية كردستان القومية , في نضال الجماهير الكردية من أجل نيل حقوقها القومية , و أن تشارك الجماهير الكردية في نضال الشعب السوري بكل فئاته و جماهيره المضطهدة من أجل التغيير الجذري , و أن ينسحب هذا أيضا على تركيا و إيران و العراق..عملية التوحيد هذه لا تعني و لا بأي حال من الأحوال إلغاء الهوية أو الحقوق القومية للجماهير الكردية لصالح أية هوية أخرى , ليست القضية هنا استلحاق أقلية قومية بالأغلبية , و لا تهميش قضية شعب لصالح شعب آخر , إنها توحيد النضال من أجل الحرية بين كل المضطهدين لصالح قضية حرية كل منهم , و بما يضع حدا للوهم الذي تروجه قوى اجتماعية و سياسية تريد أن تبني سيطرتها على الجماهير على وهم أن تحقيق الحرية للجماهير الكردية يتناقض مع حرية الجماهير العربية أو أن حرية الجماهير العربية تتناقض مع حرية جيرانهم الأكراد..
الحوار المتمدن
2008 / 4 / 22