صفحات سوريةموفق نيربية

السياسي والثقافي من حيث يتنافران

null


موفق نيربية

يأتي السياسيّ متغطرساً فوق الثقافة والمثقفين، متعالياً بخبرته وروحه العملية والتصاقه بالجماهير والواقع، مسلّحاً بجلباب الراهب وبساطته وسلطته، كما يميل هذا السياسي إلى «الاحتراف»، والسرية والتراتبية والانضباط، إضافة إلى الاستعداد للتضحية ونكران الذات في حال النجاة بالنقاء والطهارة.

من الأسهل علينا الكلام ومثال بلادنا في الذهن، يبقى هذا صحيحاً دائماً، رغم صعوباته التعبوية، حين تكون هذه البلاد من الأمثلة الصارخة على تفضيل الصمت. وفي مثل هذه الحالة، يكون التنافر ما بين السياسي والثقافي شائعاً، وتختلط أسباب ذلك. اختيار «زاوية الورود» للنظر في الموضوع، مجرّد انعكاس لفوضى تحديد موقع من ينظر وحيرته، من دون إهمال قلقه أو وجعه أحياناً.

«المثقف» معارض بطبيعته أولاً، لأنه ناقد دؤوب ينفي ويؤسس، ويفرز بمنقاره الحادّ الحَبّ من الزؤان، ويزرع. الأهم أنه حر، ولا يكون مثقفاً ما لم يكن حراً. أيضاً هو «ملتزم»، ومن دون التزامه لا يطير، وتنمو ثقافته في المستنقعات، كما أنه من دون حريته لا يكون.

«السياسي» سلطوي بطبيعته أولاً، لأنه يدافع عن سلطته التي يحوزها، أو يعمل من أجل سلطة لا يحوزها، من خلال «سلطة ظلٍّ» يحرص على تظهيرها. السياسي ملتزم، ولا يكون سياسياً ما لم يكن ملتزماً بالطبع. أيضاً هو «حرٌّ»، يستمدّ حريّته من سلطته إن كان في السلطة، ومن وهج الحرية التي يعمل من أجلها إن كان معارضاً.

«الثقافي» حر إذن، وليبرالي في حقيقته مهما كان حاملاً لإيديولوجيا تغاير الليبرالية. وهو فردانيّ في المعنى النفسي-الأخلاقي على الأقل: حيث من حق الإنسان أن يفكّر ويستنتج أحكامه بشكل مستقل، ولا يحترم شيئاً بمقدار أولوية عقله.

و«السياسي» أسير التزامه، الذي يغذيه بالنفور المتكرر والثابت من الحرية والليبرالية والفردانية المذكورة، على الشكل أعلاه، السياسي «جمعيّ» مهما ادّعى غير ذلك.

في فلسفة «الثقافي» حبّ نفس وأثَرة، وفي «السياسي» غيرية ونكران ذات وإيثار. الأول يقدّم اعتبار كلّ شيء من أجل الإنسان الفرد الوحدة الأساسية في الجماعة، والثاني يقدّم التضحية بالفرد من أجل الجماعة، عرقاً كانت أو أمة أو طائفة أو عشيرةً أو حزباً أو فصيلة كفاحٍ.

في ظلّ الاستبداد القاسي وعتمته، قد يخبط الجميع على غير هدى. فيجهد مثقفون في التأكيد على ضرورة تجذير التغيير قبل العمل المباشر من أجله، ويعدّدون عيوباً حقيقية في الحركة السياسية المنظمة، وينتحون جانباً لإمعان الفكر، واجتناب المخاطر المجانية أو القليلة الثمن كما يرونها. ينتعش هذا الوحي الداخلي في زمن التراجع والشدّة والتشاؤم. من جهة أخرى، يوغل سياسيون في اتّهام المثقفين بالغربة عن الشعب والجبن والتهاون مع السلطة، ويتسلّون غالباً بالسخرية منهم وتسريب الأخبار عن «خيانتهم» وانفلاتهم من الضوابط والمُحدّدات، ومن «القضية».

في الأساس، صحيح تماماً ما قاله أحدهم من أنك إذا قمت بتربية إنسان في عقله من دون أخلاقه، فإنك قد ربّيت تهديداً للمجتمع. وما قد يزيد في «تواكل» المثقفين أنهم يرون تجريداتهم ومفاهيمهم أكثر واقعية من الواقع أحياناً، فيخشون العواقب الافتراضية لتجريداتهم العقلية، أكثر من مصادر الخوف الواقعية. كما أنهم حين يتمسّكون بمسألة الحرية الثقافية، لا يدركون تماماً استحالتها من دون الحرية السياسية، وهذه لا تنزل في سلّة من السماء.

الأزمة في التناقض الداخلي لقضية الانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية. فهل يمكن تأسيس دولة حديثة من دون نضال من أجلها؟ وهل يمكن أن يكون هذا النضال إلاّ «ديموقراطياً؟ بمعنى أنه سلمي وعلني يعتمد على المطالبة والاحتجاج ومحاصرة الاستبداد مدنياً وبشكل ينبذ جميع أشكال العنف، لأنه نقيضها. ثمّ كيف تستطيع قوى ديموقراطية أن تكون ديموقراطية تماماً في ظلّ الاستبداد وهيمنة طرائقه وعقليته؟ بل هل يمكن حقاً قيام تنظيمات سياسية ومدنية فاعلة و«نقية» بالفعل في مثل هذا الواقع؟ وما الموقف من فذلكة التضحية، ومعيار الاستعداد لها، حتى يكون الجدال واضحاً وجلياً، بريئاً من النفاق والجبن الخفي الذي قد يكون؟

من جهة، يستحيل هذا «النضال»؛ ومن جهة أخرى، لا يمكن للانتقال أن يتحقق من دون هذا النضال! لعلّه اجتراح المستحيل إذن؟! لا «الانقضاض» صحيح وممكن، ولا «الانتظار» أملاً بتفكك الاستبداد وانحلاله ذاتياً. في الحالتين يكون الانتقال أكثر كارثية وآلاماً.

الوجه الآخر لا يقلّ إزعاجاً. حين يأتي السياسيّ متغطرساً فوق الثقافة والمثقفين، متعالياً بخبرته وروحه العملية والتصاقه بالجماهير والواقع، مسلّحاً بجلباب الراهب وبساطته وسلطته، اشتقاقاً من تعبير استعمله توماس جيفرسون في زمن الاستقلال الأميركي. يميل هذا السياسي إلى «الاحتراف»، والسرية والتراتبية على النمط الكهنوتي (النومينكلاتورا) والانضباط، إضافة إلى الاستعداد للتضحية ونكران الذات في حال النجاة بالنقاء والطهارة، أو لعلّها المازوشية، ساديّةً على المثقف، أو انتقاماً من انسداد الأفق، أوضيقه.

تلك مسألة ينبغي مقاربتها أخلاقياً، وباعتدال وقناعة وهجر للإطلاق… ومراجعة لتعريف الحرية في كل يوم.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى