اختراق على المسار السوري أم عودة لـ”سباق المسارات”؟
عريب الرنتاوي
فجأة، ومن دون سابق إنذار، تحرك المسار السوري عبر قنواته السرية المارة بأنقرة وغيرها من العواصم، وكُشف دفعة واحدة، عن استعداد أولمرت لدفع ثمن السلام مع سوريا والهبوط عن جولانها المحتل. وفي المقابل، تؤكد سوريا أنها تعرف ما الذي تريده إسرائيل، وأنها جاهزة لمفاوضات علنية لتنفيذ مبدأ الأرض (كل الأرض) مقابل السلام (كل السلام)، فهل نحن أمام فرصة حقيقية (اختراق) للسلام على المسار السوري،
أم أن إسرائيل تعاود لعبة “سباق المسارات” فتلوح بالتقدم على المسار السوري لانتزاع المزيد من التنازلات على المسار الفلسطيني؟ الذين يعتقدون أن للسلام السوري – الإسرائيلي فرصة كبيرة هذه الأيام، ينطلقون من فرضية أن سلاما كهذا معروفة حدوده وأثمانه، وجميع رؤساء حكومات إسرائيل المتعاقبة الذين “غمسوا” أيديهم في هذا الملف، كرروا التزامهم بمضمون “وديعة رابين” حتى حين كانوا ينفون علمهم بوجودها. وهؤلاء يعتقدون بأن حكومة أولمرت باتت متحررة من ضغوط “إدارة بوش” المرتحلة، التي عارضت التفاوض مع سوريا، وأنها – حكومة أولمرت – تعرف مسبقا بأن المرشحين الثلاثة للرئاسة، الديمقراطيين والجمهوري، سيؤيدون مسعى إسرائيل لتوقيع اتفاق سلام مع سوريا، يخرجها من “محور الشر”، ويخفف من مأزق واشنطن في العراق، ومآزق حلفائها في غير ساحة عربية وإقليمية.
أما الذين يعتقدون بأن سلاما كهذا ما زال ممنوعا ومتعذرا، فيردون تشاؤمهم إلى “عدم وجود قيادة تاريخية ـ كاريزمية” في إسرائيل، وانعدام الحاجة “للهبوط عن الجولان” فلا ضغوط سورية من أي نوع على إسرائيل، والجولان هي الجبهة العربية الأهدأ حتى من جبهات الدول الموقعة لمعاهدات سلام مع إسرائيل (مصر والأردن)، وممثلو هذه “المدرسة” في التفكير السياسي الإسرائيلي، يرون أن السلام مع سوريا لن يأتي بأفضل مما هو متوفر الآن بين البلدين، في حين أن مخاطره عظيمة، خصوصا إن أفضى إلى تنامي المعارضة الإسلامية الأصولية للنظام، ونجاحها لاحقا في إسقاطه، حيث سيصبح العمق الإسرائيلي في مرمى نيران “حزب الله أو القاعدة” أو من هم على شاكلة الفصيلين المذكورين.
في ظني أن لا سوريا ولا إسرائيل تريدان سلاما ناجزا بينهما، أو على الأقل، لا تريدانه الآن، سوريا تريد مفاوضات وعملية سلمية، وتريدها علنية بالذات، لتكسير أطواق العزلة المضروبة من حولها، وإسرائيل تريد إشاعة “وهم عملية سلام” بهدف اللعب على المسارات، والتلويح بأحدهما ضد الآخر، وخلق الانطباع بأن تقدما يطرأ على الأرض، وأن رسائل سرية تبادلها أولمرت مع الأسد عبر الوسيط التركي، كتبها رئيس حكومة إسرائيل من منتجع كان يقضي فيه إجازة الفصح اليهودي في الجولان المحتل، وبطريقة استعراضية استفزازية لا تخفى دلالاتها الرمزية على أحد.
والحقيقة أنها ليست المرة التي ينتعش فيها هذا المسار قبل أن يعود للانتكاس مجددا، فقد تعلمنا من التجربة التفاوضية العربية مع إسرائيل، أن حكوماتها المتعاقبة تلجأ لتحريك هذا المسار خدمة لأغراض أخرى، أحيانا لإحداث الوقيعة بين سوريا وحلفائها في “محور الشر” ـ ودائما للضغط على المفاوض الفلسطيني، ولهذا جرى عمدا ترويج معلومات عن استعداد سوري للتفاوض مع إسرائيل والأهم مع واشنطن للبحث في “الثمن” الذي يتعين دفعه لدمشق نظير إقدامها على فرط عقد تحالفها مع طهران وطرد “الإرهابيين الفلسطينيين من دمشق”، والتوقف عن دعم “إرهاب حزب الله” في لبنان.
والأخطر من مضمون هذه التسريبات هو توقيتها في هذه الأثناء بالذات، حيث تترقب المنطقة باهتمام بالغ، تطور “المفاوضات السرية” التي تحدث عنها عباس مع إسرائيل، واحتمالات الإعلان عن اتفاق نوايا ـ إطار ـ رف بين الجانبين، الأمر الذي يدفع إلى التساؤل عمّا إذا كان “المرسل إليه” في مراسلات إيهود أولمرت هو بشار الأسد أم محمود عباس؟ لذلك فقبل أن نغرق في التفاؤل أو يغرق كثيرون في البحث عن التداعيات والسيناريوهات المحتملة، علينا أن نعود قليلا للوراء وأن نتأمل جيدا في بعض فصول المفاوضات العربية الإسرائيلية، فضلا بالطبع عن قراءة خارطة القوى والمواقف والاستعدادات في إسرائيل للوصول إلى صفقة شاملة مع سوريا، وقدرة الطبقة السياسية في إسرائيل على الوفاء باستحقاقات هذه الصفقة نظريا وعمليا. فمثل هذه المراجعات والقراءات تقول ان الجمود سيظل سيّد الموقف على الجبهة الهادئة.
* كاتب عربي