عودة إلى النوروز الدامي، في العُنف غير المشروع أو الانتقام من المجتمع
بدرخان علي
جلّ الانتقادات التي صدرت من منظمات حقوقية غير كردية على ما جرى ليلة عيد نوروز 20 آذار هذا العام في مدينة “القامشلي” ركزت على رد الفعل غير المتناسب مع “الجرم” المرتكب. والحق أن إطلاق الرصاص الحيّ والمتفجر على صبية محتفلين في حيّ صغير غرب البلدة بمناسبة شعبية، لها طابع فلكلوريّ واحتفاليّ، مألوفة في المناطق الكردية وللسلطات المحلية والمركزية، يبعثُ على قدرٍ هائل من القلق والتوجس.
وبلا مبالغة كلامية، نستطيع القول إننا إزاء سلوك تصعيديّ واضح ينطوي على نزعة انتقامية مخيفة بحق أي مظهرٍ استقلاليّ عن الاحتفالات الرسميّة التي ترعاها السلطة وأدواتها الأمنية بضبط وحزم صارمين. وتزداد قسوة القمع حين يشتبه بأي نشاط يمّت بصلة لما يمكن تسميته ببؤر “معارضة” أو مشكوكة في ولائها المطلق والنهائيّ.
و”القامشلي” هذه تجمع أكثر من عامل يؤهلها لأن تكون بيئة احتجاج واضطراب. ففيها تتكثّف مترتبات السياسات الجائرة ووطأتها، ويتجمّع فيها البؤس من كل أطرافه. فمن الارتياب في وطنية غالبية سكانها الأكراد إلى مفاعيل ونتائج السياسات التمييزية التي طبّقت بحقهم من تجريد من الجنسية (عددهم يربو اليوم على ربع مليون إنسان بلا جنسية) إلى نزع ملكية الأراضي عن أصحابها، وتوزيعها على قادمين من مناطق أخرى لتشكيل “حزام عربي” فاصل بين المناطق الكردية على جانبي الحدود السورية ـ التركية والسورية ـ العراقية، إلى حظر الثقافة الكردية، إلى غياب المشاريع التنمويّة والاقتصاديّة وتفشي الفقر ووضع العراقيل الأمنية أمام أبنائها الكورد في شتّى المجالات. لهذه العوامل ولوجود تنظيمات سياسية ناشطة نَجَت من “مذبحة السياسة” تنظر السلطات شزراً إلى أي نشاط مستقل عن “مؤسسات” الدولة حتى لو كان احتفالاً اعتيادياً أو نشاطاً اجتماعياً ترفيهياً. وتشير معطيات السنوات القليلة المنصرمة إلى تزايد حدّة القمع لأبناء الأقلية الكردية في سوريا لا سيما بعد أحداث آذار الدامية 2004، والتي ابتدأت من البلدة نفسها وعمّت البلد بأكمله. وقد بررت السلطات وقتها قتل وجرح عشرات الشبان واعتقال وتعذيب المئات بما تظّنه لا يحتاج إلى إثبات أو برهان: النيل من هيبة الدولة وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية، واقتطاع جزء من أراضي سوريا! هذه التهم التي تشهّر في وجه أي ناقد أو معارض وتوجه لأكثر الناس حرصاً على مستقبل البلاد وأهلها من المثقفين الوطنيين الديموقراطيين على مدار عقود، كان آخرها الدفعة الأخيرة من نشطاء إعلان دمشق للتغيير الوطنيّ الديموقراطيّ.
ومن المُريب أن لا تقوم الدولة بوظائفها تجاه مواطنيها سوى ممارسة العنف المشروع للدولة. تحت مسميّات الوحدة الوطنية وأمن الدولة والحرص على المواطنين. وكنا قد توقفنا في غير مكان عند خطل إدعاء السلطات التوتاليتارية الفردية لهذا الإدعاء انطلاقاً من وقائع ملموسة. فمن جهة أولى ليست في “أشباه الدول” هذه مؤسسّة منتخبة ومشروعة ومفوّضة لاحتكار العنف، وخاضعة للمحاسبة من ثمّ. وليس هناك سلطات مستقلة ومتمايزة ومكتملة الشخصية في هذه البلاد. ولا يراد بالعنف إلا ترويض المواطنين لعبادة السلطة لا قطع الطريق أمام عنف الجماعات الأهلية بحق بعضها أو بحق دولتهم. و”الدولة” هذه لا تتوانى عن التصرف كجماعة أهلية بعصبية سلطوية فائقة. وإنه لمن الأكثر غرابة أن تكون هيبة الدولة بهذا القدر من الهشاشة والضعف، لا بل ان تكون في مواجهة ومعارضة صريحة مع كل ما يمّت بصلة لحقوق الإنسان والمواطنين.
وفي هذا السياق، نستطيع القول إن احتفالاً شعبياً في طرف بلدة بأقصى الشمال الشرقي للبلاد، لم يكن إهانة للدولة بشتّى المقاييس. لكن ميل الانتقام الواضح في ردة فعل السلطات لا يخفى على المتابع.
غير أن للتصعيد هذا خلفية أخرى تتعلق بشعور العزلة الإقليمية والدولية لدى أهل الحكم تزامناً مع تنامٍ مضطرد لحركة الاحتجاج الثقافي وسماع أصوات معارضة ـ وإن كانت معزولة ومحاصرة ـ على نحو غير مألوف (وغير جائز)، فتسارع السلطات لتقويضها والانقضاض عليها في مهدها، قبل أن تتوسع الدائرة الصغيرة وغير المرئية تلك والمسوّرة بإحكام بناءً على خبرة أربعين عاماً من حالة الطوارئ والأحكام العرفية. وإذا انطلقنا من مقارنة أجراها كاتب سوري حصيف على صفحات “الحياة” ورَصَد من خلالها أوجه التشابه بين أيامنا البائسة هذه وسنوات الثمانينات التي أنتجت الأزمة السياسيّة والاجتماعيّة الكبرى في البلاد، أمكَن لنا أن نتفهم القلق والخوف المحقّيْن لدى الأوساط السياسيّة الكرديّة والعربيّة من تمادي العنف إلى حدود غير مسبوقة في التعامل مع جماعات أهلية أو مواطنين تختارهم “الدولة” كحقل تجارب لاختبار هيبتها وجبروتها وسُلطانها، وعلى سبيل الإيهام بخطرٍ كبير داهم يحرق الأخضر واليابس، ما يشرّع كل ممارساتها غير المشروعة وغير الإنسانية. أو على سبيل افتعال أزمات وطنية تغني عن كل إصلاح موعود.
وقد اعتقدت السلطات الحاكمة لعقود عديدة أن بإمكان التدابير الأمنية وحدها أن تكفل إدارة “الملف الكردي”، وأوكلت هذه المهمة لفروع الأمن في المناطق الكرديّة، كما في سائر البلاد. وسرى الاعتقاد بضمان ولاء الفعاليات السياسية والاجتماعية الكردية، أو عدم جدواها الواقعية في خلق حركة معارضة واحتجاج ضاغطة. ولم يكن في الحسبان أن تتزامن الدينامية الكردية الناشئة بصورة ملحوظة مع روافد أخرى كتفاقم الأزمات المعيشية والاقتصادية ومترتبات تلك السياسات التمييزية المشار إليها أعلاه وانبعاث حلقات ومظاهر سياسية وحقوقية وثقافية معارضة في البلاد لأول مرة بعد تسوية السياسة والمعارضة بصورة شبه نهائية، كما تبدّل الأحوال المحيطة وتفاعلات المسألة الكردية إقليمياً كإحراز الحركة الكردية في العراق مكاسب كبيرة في عراق ما بعد صدام. كذلك الصراع التركيّ ـ الكرديّ المزمن، الذي أجبر أعتى دولة، لا تخفي عداءها لكل ما هو كرديّ، على الإقرار بالحقيقة الكرديّة، على طريقتها المنقوصة والمثلومة، لكن المهمة للغاية أيضاً في دولة متشددة مثل تركيا الكماليّة.
بيد أن ابتكار مدخلٍ سليم وآمن لتفادي أزمات الداخل السوريّ الكثيرة والمتكاثرة لن يكون بالأمر السهل، لا سيما أن أهل الحكم أنفسهم اعترفوا، ذات يومٍ من أيام الإصلاح الشهير، بعدم وجود “عصا سحرية” بيد أحد، ولو من غير الاعتراف بكل هذا الكمّ الهائل من المشكلات البنيويّة المُستعصيّ.
مع ذلك لا نرى من السّحر في شيء في ما لو ذكرنا أولياء الأمور باحترام الدستور السوريّ نفسه، لا غيره، كي لا نخرق حرمة “الخصوصية السورية” أولاً وعلى سبيل مجاملتهم أيضاً فهم يموتون في التعلّق بالدستور وحبّ القوانين ونظراً لكونه مقدّساً ولا يجوز تغييره إلا بطرق مشروعة، لا على طريقة بعض المعارضين. وأخيراً من المؤكد أن الدستور سينال إجماع الشعب والجماهير، حين يخضع لأول مرة لاستفتاء شعبيّ لم يَحنْ وقته بعدُ من ثلاثة عقود. الدستور الذي تتحدث بعضُ مواده عن حياة المواطنين وكرامتهم. وأن ندعو لتحريم القتل “خارج القانون”. وأن نطالب بإيجاد حلول عاجلة وعادلة لمشكلات تمسّ حياة المواطنين اليوميّة وقد سبق الاعتراف ببعضها. كأن تكون مأساة “المواطنين” الأكراد المجردين من الجنسية، لما يزيد عن 45 عاماً، مجرد مشكلةً تقنية على زعم أحدهم. مع ذلك يبدو أنها تحتاج لعصا سحرية…. تقنية! فبانتظار مزيدٍ من التطور العلميّ والتكنولوجيّ في عالم السّياسة والسّحر.
خاص – صفحات سورية –