أزمة الاقتصاد العالمي، الرأسمالية عدو الحياة
هيئة تحرير نشرة الآن
تدفع البشرية كلها ثمن أزمة لا ناقة لها فيها ولا جمل، وكل ذلك لأن الاقتصاد الأمريكي (قاطرة الاقتصاد العالمي) يعاني أزمة حادة، ويبقى أن نقول أن رأسماليي أمريكا المتوحشون يعرفون تماماً كيف تؤكل الكتف، في الأزمات كما في الرخاء!!
إنها خلاصة مكثفة لحقيقة ما يجري في العالم اقتصادياً، ولكن في التفاصيل، تبدو الحقائق مرعبة، وما من كلمات تعبر عن الفاجعة أكثر من جملة قديمة جديدة: (الرأسمالية المجنونة المتوحشة عدو الحياة)، فماذا في التفاصيل؟
تمتع الدولار الأمريكي ابتداءً من منتصف القرن الماضي ـ بعد الحرب العالمية الثانية بشكل خاص ـ بمكانة عالمية فريدة، حيث باتت ثلث احتياطيات العالم من النقد الأجنبي، وخمسين بالمائة من الصادرات العالمية، ونحو خمسة وثمانين بالمائة من مبادلات القطع الأجنبي، تجري جميعها بالدولار الأمريكي، وذلك بفضل تسعير النفط وغيره من مصادر الطاقة إضافة للمعادن الثمينة بالدولار.
وقد عاش الدولار طوال السنوات الماضية و معه الرأسماليون الأمريكيون وهم قوته (الخارقة)، إلا أن الأزمة التي يتعرض لها الآن أظهرت لأول مرة هشاشة هذه القوة، ولكنها أظهرت في الوقت نفسه مدى جنون ووحشية رأس المال، وقدرته على العبث بمصائر البشر دون وازع ولا رقيب.
إن الأزمة تتعلق أساساً بخلل بنيوي في الاقتصاد الرأسمالي، فالرأسمالية منتجة أزمات، مع التأكيد أن ذلك لم يعد يتجلى كما في السابق بـ “الأزمات الدورية” التقليدية، أو على شكل فيض إنتاج، بسبب السيطرة والتحكم الكبيرين بالأسواق، ومع أن ارتفاع أسعار النفط العالمية ما هو إلا لعبة مالية أمريكية أساساً (قيمة البرميل الفعلية اليوم هي أقل من قيمته الفعلية عام 1980 كقدرة شرائية)، إلا أن هذا الارتفاع يشكل في جوهره محاولة لتغيير توزيع الأرباح والكتل المالية بين الشركات الأمريكية الكبرى، المتاجرة بمصادر الطاقة من جهة، وتلك المنتجة للسلع والمستهلكة لمصادر الطاقة من جهة أخرى، وفي كل الحالات عملت لعبة (التضخم) على أداء دورها في تخفيض قيمة العمل، وزيادة حجم المنهوب من فضل القيمة، وبذلك أمكن سرقة دم المريض من دون ألم!!
ويمكن تحديد أهم أسباب أزمة الاقتصاد الأمريكي في محورين:
1ـ أسباب اقتصادية: إن تباطؤ النمو في الولايات المتحدة زاد من تكاليف الإنتاج (يتوقع معدل نمو عام 2008 صفر بالمائة)، وخفّض فرص العمل بنسب كبيرة (80 ألف وظيفة ألغيت في شهر آذار فقط) وارتفعت معه معدلات البطالة إلى 6.5%، إضافة إلى العجز المستمر والمتنامي في الموازنة الأمريكية بفعل نمط الاستهلاك والرفاهية المتعاظم (يقدر العجز عام 2008 بمبلغ 410 مليار دولار أي 2.9% من الناتج المحلي الأميركي)، والديون العامة الداخلية تشكل 64% من الناتج المحلي الإجمالي، كل ذلك استدعى تخفيض معدلات الفائدة، وبالتالي زيادة حجم السيولة النقدية في الأسواق، وهذا يؤدي كما هو معروف إلى التضخم الذي بلغ 4%، أي الانخفاض الحتمي لقيمة الدولار، أضف إلى ذلك أزمة الرهون العقارية التي فجرت الأزمة، حيث وجدت آلاف الأسر الأمريكية نفسها عاجزة عن تسديد أقساط المنازل المرهونة للمصارف بعد انخفاض القدرة الشرائية للدولار، وما تبع ذلك من عجز مالي في صناديق المصارف استدعى تدخلات متعددة من البنك المركزي لإنقاذها من الإفلاس، عبر تمويلها بسيولات إضافية، زادت من حجم التضخم بمعدلات قياسية أدت لمعدلات قياسية أيضاً في انخفاض قيمة الدولار، وتدل أزمة الرهون هذه على حقيقة مرة من حقائق النظام الرأسمالي، فقد ظهر للعيان أن الشعب الأمريكي يقبض سلفاً قيمة عمله طيلة حياته الباقية مقابل خدمات وسلع استهلاكية، وربما أساسيات، حصل عليها بتسهيلات دفعته إلى مزيد من الاستهلاك والرفاهية، وتركته عرضة للتهديد في معيشته ومستقبله.
2ـ أسباب سياسية: الأساس في الأزمة يتمثل في توجيه الاقتصاد كله لتحقيق الأرباح بأي ثمن، هذا هو الدافع المحرك للنشاط الاقتصادي الرأسمالي، ومن أجل ذلك تفتعل الحروب تحت شعارات كاذبة (نشر الديمقراطية، مكافحة الإرهاب…) ولذلك عانى الاقتصاد الأمريكي من فقدانه كل فائض موازنته المالية، الذي وصل أثناء إدارة كلينتون إلى مائتين مليار دولار، ليصبح اعتباراً من عام 2004 يعاني عجزاً بلغ قرابة 758 مليار دولار بفعل استزاف الموارد المالية لتمويل حروب الإدارة الأمريكية العدوانية، أضف إلى ذلك تحول الاستثمارات العالمية عن السوق الأمريكي إلى أسواق آسيا وأوروبا (ولا سيما الاستثمارات الخليجية) خوفاً من مفاعيل قوانين محاربة الإرهاب التي طبقت بصرامة في أمريكا، (انظر إفشال الإدارة الجمهورية الحالية لصفقة ضخمة لإدارة الموانئ الأمريكية من قبل شركة موانئ دبي العالمية).
ومما لا شك فيه أن معالجة الأزمة بالطرق التقنية المالية (تعديل أسعار الفائدة، ضخ السيولة..) لا يقدم لها إلا المزيد من التأزيم، وهنا تثبت آليات “السوق الكلية” التي نظّرت لها (المدرسة النقدية) فشلها في ضبط الأزمات، ويعود الاقتصاديون من جديد للتأكيد على أهمية دور الدولة في هذا المجال (أفكار كينز)، ولا سيما في حال الأزمات الكبرى، كأزمة الاقتصاد الأميركي، حيث تحتاج معالجتها إلى التصدي للأسباب المولدة لها، (الإنفاق على الحروب، الاستهلاك الجائر للموارد، ضعف التوظيف، تراجع النمو، هروب الاستثمار…) بحيث تتم إعادة النظر بهيكل الإيرادات والنفقات الداخلية في أمريكا والإقرار باستحالة عدم المس بنمط الاستهلاك الواسع للأميركيين واستمرار الهيمنة الاقتصادية على العالم إلى الأبد، والاعتماد على النهب الوحشي شبه المجاني لثروات وخامات وخيرات الآخرين.
الاقتصاد الأمريكي يعاني إذن، ومعه الاقتصاد العالمي، ولكن من يدفع الثمن؟
تشير الوقائع إلى أن التاريخ لم يصل إلى نهايته كما ادعى فوكوياما ذات وهم، وأن النظام الاقتصادي “الليبرالي الجديد” لم يقدم للبشرية سوى المزيد من الفقر والخراب، في مقابل السعادة والازدهار الموعود بهما، وعولمة هذا النمط الاقتصادي ـ ولو بالقوة ـ جعلت أزماته من النمط المعولم، التي تطال عند وقوعها الدول والاقتصادات الأكثر تخلفاً قبل غيرها، وباتت حقيقة الأمر جلية واضحة، فديكتاتورية “السوق الكلية” المتمثلة بالليبرالية المتوحشة لم تنتج للبشرية سوى المزيد من الحروب والمآسي بذرائع مختلفة وحقيقة وحيدة تتمثل في السيطرة على موارد العالم، إضافة إلى كارثة محققة على كوكب الأرض ومستقبل أجياله نتيجة الاستغلال الجائر للبيئة ومواردها، وعدم الاكتراث لخطر الاحتباس الحراري، إلا بالخطب والشعارات، وبالتالي لم تحقق هذه الليبرالية المتوحشة لاقتصادات العالم سوى تراجع واضح في معدلات النمو وتزايد أكثر وضوحاً في معدلات البطالة والتضخم، وخلل فاضح في توزيع الدخل والثروات، وإفقاراً مستمراً لمليارات البشر لحساب آلاف قليلة من الرأسماليين.
الفقراء في الدول المتخلفة سيدفعون الثمن الأغلى في هذه الأزمة الخطيرة، وأقل تأثير ممكن يتبدى في أن الكثير من المساعدات المعيشية (رشاوى لكم الأفواه وضبط الانفجارات) التي تدفعها لهم البلدان الرأسمالية الغنية ستتقلص، إن لم تحجب بالكامل، وستكون البلدان الفقيرة قبل الغنية على أعتاب أزمة بطالة نتيجة تقليص الوظائف وإغلاق الشركات والمعامل.
وبفعل سياسة التضخم وتخفيض الدولار التي تتبناها السياسة الاقتصادية الأمريكية سيحصل انخفاض في قيمة الاحتياطات من الدولار في مصارف دول العالم، وهي لعبة حققت نصراً سهلاً للرأسمالية الأمريكية في مواجهة الرأسماليات المنافسة الأخرى (خُفّضت توقعات النمو في الاتحاد الأوروبي واليابان إلى النصف تقريباً)، وأدت هذه اللعبة القذرة إلى كبح انطلاقة عدد من الدول النامية، حيث قلصت فرص هذه الدول في تحقيق معدلات نمو كان متوقعاً لها أن تكون كبيرة (الصين، الهند، ماليزيا…)، في فعل لا يشبه إلا السرقة الفاضحة للشعوب المجتهدة.
وأما في الدول الفقيرة والمتخلفة، فإن عجز ميزانياتها سيتفاقم، وسينخفض مستوى معيشة مواطنيها نتيجة ارتفاع أسعار النفط و المنتجات والخدمات المستوردة، بشكل يفضي إلى تأكل الدخول والرواتب وغلاء المواد الغذائية والأساسية وتعمق الفقر، وهو في جوهره عمل من أعمال سرقة دم الفقراء في العالم بأسره، (هذا ما حصل في سوريا تماماً، لأسباب تتعلق على الغالب بسياسة النظام، الذي استغل الأزمة العالمية لتحقيق أهدافه في التوجه بشكل أسرع باتجاه اقتصاد السوق الرأسمالي، معلقاً كل أسباب الغلاء على شماعة هذه الأزمة الخارجية، فكما هو معروف ساعد فك ارتباط الليرة السورية بالدولار منذ زمن بعيد في ضعف تأثير الأزمة العالمية على الاقتصاد السوري).
الشركات الرأسمالية الكبرى في أمريكا وجدت في الأزمة فرصة سانحة لمزيد من الإثراء على حساب شعوب العالم كافة، والفقيرة منها قبل الغنية، حيث تمكنت بفضل سعر الدولار المنخفض من تنشيط صادراتها خارجياً، وزادت فرصها في المنافسة في السوق الأمريكية الداخلية نتيجة ارتفاع أسعار السلع الواردة، (الولايات المتحدة تستورد 15.5% من الواردات العالمية)، إضافة إلى الاستفادة من توجه الأمريكيين إلى السياحة إلى الداخل، بعد ارتفاع أسعار الخدمات السياحية في العالم، وفوق كل هذا وذاك لعبت شركات تسويق النفط لعبتها الكبرى، وهي شركات أمريكية في معظمها، وحققت أرباحاً خيالية في الأشهر الماضية لم تحققها طيلة السنوات العشرين الماضية، بفضل أعمال المضاربة التي تشكل السبب الرئيسي في الارتفاع الحاد في أسعار هذه المادة الأساسية، ومن ناحية أخرى، يظهر للعيان أن موجة الغلاء العالمية لم تكن إلا نتيجة حتمية للنهج المتوحش التي تتبعه الليبرالية الجديدة في إدارة اقتصاد العالم والبحث عن الربح بصرف النظر عن حاجات البشر وشعوب العالم للغذاء، فالحبوب الأساسية (القمح والرز والذرة…) شهدت ارتفاعاً حاداً في أسعارها، بما يهدد حياة مليارات البشر على الأرض، ولم تكن أزمة أسعار الدولار والنفط هي السبب الوحيد، بل هناك ما هو أدهى وأكثر وحشية، ألا وهو التحول لإنتاج طاقة بديلة من الوقود الحيوي باستخدام الحبوب (القمح والذرة وفول الصويا.. الخ)، مما خفض المعروض من هذه المواد في السوق، ورفع أسعارها بالتالي أضعافاً مضاعفة.
وأخطر ما في أمر أزمة الاقتصاد الأمريكي الراهنة أن تجار ومروجي ومنظري الحروب يرون في شن المزيد من هذه الحروب العدوانية حلاً واقعياً ومطلوباً لتحريك عجلة الاقتصاد الأمريكي الراكد، ويرون أنها (أي الحروب) ستمكن شركات السلاح والتصنيع الحربي وآلاف الشركات المرتبطة بها من جني أرباح تساهم في استمرار خطوط إنتاجها تعمل بالطاقة القصوى ولأمد بعيد، هذا إضافة إلى استغلال هذه الحروب للسيطرة على موارد ومقدرات إضافية بكلفة بسيطة، وتعزيز قبول العالم ورضوخه لمتطلبات الحفاظ على الوجود في “القرن الأمريكي“!!!
وبالمحصلة: الاحتكارات العسكرية والنفطية والطغمة المالية الأمريكية تحقق أرباحاً هائلة وفاحشة، والفقراء (الفقراء فعلياً، والفقراء نسبياً) يخسرون المزيد من غذائهم ودوائهم ومستوى حياتهم، وهنا نسأل: هذه الرأسمالية المجنونة المتوحشة، إلى أين تسوق البشرية كلها؟؟
أما سوريا، ومصر قبلها، وسائر الدول العربية، فإن أنظمتها تمشي كالقطيع الأعمى على طريق السوق العالمية المفتوحة، وتسلم اقتصاداتها وثرواتها للحيتان الرأسمالية تحت ألف ذريعة وذريعة، واضعة مستقبل شعوبها في مهب الريح، حيث يجتمع على نهب الناس والدول رأس المال العالمي ورأس المال المحلي، فأي مستقبل تعد الرأسمالية للشعب؟؟
خاص – صفحات سورية –
يبدو ان الشتاء القادم سوف يكون حار جدا في سورية