إشكالية العلاقة اللبنانية السورية والطيران فوق عش الوقواق
بشار العيسى
منذ زمن طويل كانت بيروت تغلي على هدير صامت مثل ضجيج البحر، الأحياء والأزقة والناس العاديين كانوا قد ضاقوا بالاحتلال السوري المتخلف والفظ ، نقول السوري لأن الكتلة الشعبية اللبنانية لم تر في الوجود السوري ( الجنود، وحواجز التفتيش، ولكنة الجنود، فضلا عن ضباط الاجهزة الامنية، وتدخلاتهم في كل ما يخص حياة الناس بأدق تفاصيلها بما في ذلك الشؤون اليومية والفصل في المنازعات الفردية من طلاق وإخلاء للشقق)، غير شكل الاحتلال ومفهومه ومصطلحه، تعبيرا عن قطيعة نفسية مع ما حاولت نخب لبنانية سياسية، بمسمى “الحركة الوطنية اللبنانية”، الترويج له على مدى سنين بأنه حضور وطني تقدمي للشقيقة سوريا لمساعدة لبنان.
هذه الإشكالية التاريخية التي ارتاحت لأحجيتها بعضا من النخب السورية/ اللبنانية (الوطنية) بين قوسين فوتت على البلدين ثلاثة عقود من التخلف عن إنجاز مهمة وطنية لم تكن تستقم وحجم التدمير الذي تم في البلدين لمصلحة سلطة سورية فاسدة وقوى لبنانية مرتبطة بفتات موائد الطغاة على جانبي الحدود بين البلدين، نعم لقد تأخر الجميع، بل تخلفوا طويلا في الاعتراف بأن هناك احتلالا سوريا للبنان لأسباب ذات علاقة بالشجاعة السياسية و الأخلاقية.
لم يستسغ الوطني اللبناني الحق القول باحتلال بلد عربي لبلده، كما أغمض الوطني السوري عينيه بالتقية كيلا يدان من الحركة (الوطنية) اللبنانية، ونضع الوطنية بين قوسين حتى لا يتهم بالفجور والعمل لمصلحة إسرائيل.
لا بد من الاعتراف
في سني الحرب الأهلية اللبنانية وقعت أخطاء وحدثت تجاوزات وشـرّعت أفكار وسياسات تبين بعد السنين الطوال هول وحجم هذه الأخطاء ومفاعيل تلك السياسات والاعتداءات التي وقعت بحق جماعات وأفراد ودمرت عقول وفسخت روابط، والدليل أننا اليوم نرى تحالفات و تخندقات مشتركة لقوى وتعبيرات سياسية وطوائفية كانت فيما مضى في خنادق متواجهة تكفر إحداها الأخرى بالرصاص الحي والسواطير والأعمال الإرهابية التي طالت أبرياء خارج خنادقها.
منذ العام 1976 ، والسجون السورية على عديدها واتساعها ملآى بالوطنيين السوريين المعارضين لسلطة الأسد ونظامه لأنهم أدانوا احتلاله للبنان، انتفض الشارع السوري وقمعت نخبه، أعتقل الشيوعيون والإخوان المسلمين بالآلاف، فكانت مجزرة سجن تدمر الرهيبة سنة 1979 وتم تدمير مدينة حماة 1982 على رؤوس أهلها العزل كخاتمة لمسيرة دموية لسائر المدن السورية التي انتفضت على نظام الأسد الأب والتي أشعل شرارتها الاجتياح السوري للبنان 1976.
منذ سنة 1979 و لغاية سنة 2000 لم نسمع كلمة استنكارا واحدة للقمع في سوريا ولو خجولا من جهة لبنانية واحدة( أحزابا ومثقفين) يمينا ويسارا، من هم في الموالاة اليوم، أو من يوسمون بالمعارضة.
منذ العام 1979 فوض بعض من الأخوة اللبنانيين ( الوطنيين) على مختلف مشاربهم ومعتقداتهم وبعضا من اليسار الفلسطيني ( الرافضي المدلل) نفسه وكالات الدفاع عن النظام السوري باعتبار أن سوريا السلطة دون الشعب هي قلعة العروبة والتقدم، ومنذ ذلك التاريخ والشعب السوري، ملحقا به اللبناني، محكوم عليه بالحجر والوصاية يتحمل جرائم السلطة ونفاق الأخوة العروبيين.
وبيروت اليوم، تتقدم سائر البقاع اللبنانية في الاحتفال بذكرى انتفاضة استقلاله إثر الجرائم التي أودت بحياة نخبة من قياداته السياسية والإعلامية، يتلمس الشعب اللبناني حجم جراحه، وانتفاضته تُحاصر من النظام السوري وقوى الردة اللبنانية المرتبطة به عضويا، يذهب تفكيري، إلى الشهيد “جبران تويني” إذ لولا أسبقيته وشجاعته السياسية وطموحه الاستقلالي العنيد بالقطع مع ذلّ الاحتلال بالمواجهة، لما انتبه الأخوة اللبنانيون (الديمقراطيون التقدميون) إلى أهمية ودور شقيقهم الشعب السوري ومعارضته الوطنية، ولا كانوا سمعوا ربما برياض الترك وقافلة المعتقلين المثقفين، وإن متأخرا فخير مما ألا تكون أبدا، يوم فتحت جريدة النهار صفحاتها ـ مشكورة ـ للصوت السوري المعارض على ضعفه، ولولاها لما تمّ لشجاعة الشهيد سمير قصير في أن تتألق في ملاقاة الرؤية المشتركة لتوأمة المسارين السوري اللبناني إلى الحرية، ضد الطغيان والنظام الاستبدادي الحاكم في سوريا ولبنان.
في سنوات جمر المعارضة السورية في السجون والمنافي والحياة السرية، على مدى ثلاثة عقود من السنين أحتل الأخوة اللبنانيون( الوطنيون) فنادق شيراتون ومريديان و مخافرعنجر وقرداحة المستقلة والأحياء الراقية في دمشق( بيوتات، ودارات مضيئة)، ضاقت دمشق بمشايخ وزعماء الحركة الوطنية اللبنانية وطوائفها على اختلاف مللهم ونحلهم، فضلا عن شيعة أهل البيت وآل المرّ و فرنجية وأيلي حبيقة، جزار صبرا وشاتيلا حليف الحلف الثلاثي في صيغته الخدامية.
و في الوقت الذي كانت الأجهزة الأمنية السورية تقضم الأرض في بيروت وطرابلس شارعا فشارعا وتحتل الإرادات اللبنانية واحدة تلو الأخرى كانت بندقية السلطة السورية تنتقل من كتف فصيل لبناني إلى آخر. يومها لم يكن رستم غزالة، ولا جامع جامع ولا خلوف و بشار الأسد يومها كان صغيرا على ما يجري. بل كان حافظ الأسد محمد غانم وناجي جميل وعبد الحليم خدام وحكمت الشهابي ورفعت الأسد ومن ثم غازي كنعان، وهم الذين قتلوا كمال جنبلاط ليستفردوا بالساحة (الوطنية) اللبنانية، وهم اللذين أعطوا للاحتلال السوري في لبنان شرعيته الإقليمية برهانات دولية وهم الذين أشرفوا على تدمير بيروت بين شرقية وغربية، وهم اللذين زرعوا الغربية بالمتفجرات والسيارات المفخخة والشرقية بالقصف المركز، وهم الذين أقاموا في طرابلس، المتاريس بين العلويين والسنة وهم الذين دفعوا أسعد حردان لاغتيال عميد الدفاع في حزبه “محمد سليم” لتوظف الشهادة القومية السورية في توكيل حزب الله بالرعاية الإيرانية مهمة البديل عن الولاء اللبناني، بعدما كانوا قد دمروا كفاحية الشعب السوري إلى درجة التجمد الكيفي.
تحت الاحتلال السوري أصبح لبنان مختبر تدجين القوى (الديمقراطية) اللبنانية والفلسطينية، إليه هرب النظام السوري بمشاكله المتأزمة سلطويا لترويجها في السوق الإقليمية عبر وكالات محلية بالمفرق. لقد تم في الخفاء والعلن ترويض الكتلة الشعبية اللبنانية ونخبها الرافضة للاحتلال والوصاية الفاجرة، على جرعات التماثل في الأوضاع على طرفي الحدود، بدأت بإعادة إنتاج المؤسسة الأمنية اللبنانية على شاكلة شقيقتها السورية ولم تنته بإعادة إنتاج جديدة للمجتمع اللبناني بعمليات “التجنيس” الخبيثة لتنفيس الضغط الداخلي إلى مرتع استخباراتي خارجي، جعل من لبنان ساحته ومتنفسه، وإشاعة الفساد والرشوة المنظمة برعاية جهاز الأمن والاستطلاع للوصول إلى تفريغ لبنان من شخصيته التاريخية وكيانيته المجتمعية المتميزة بتركيبة ديمقراطية عصية على الإلغاء، وأد الاحتلال السوري مؤسسات المجتمع المدني بالاستعاضة عنها بصيغ كاريكاتورية مثل “المجلس الأعلى”، وبتعبير أدق كان الهدف هو إشاعة نموذج “شارل أيوب” و”وئام وهاب” و”أسعد حردان” في طول البلاد وعرضها، إلى أن خرجت الصرخة من “وليد جنبلاط ” ومجلس المطارنة الموارنة ومن ثم الرئيس الحريري في صدى حشد وتعبئة “جبران تويني” وجريدة “النهار“. للأسف توقفت هذه المحاولة في حدود استخدام البعض الثقافي السوري كأتباع ووسائل ضغط إعلانية لم ترتق إلى علاقة استراتيجية سياسية مع المعارضة السورية بعمق استراتيجي في معركة واحدة تبدأ من “عين ديوار” على الدجلة ولا تنتهي إلا في راس الناقورة.
تعاطت النخب السورية بدورها، لانعدام شجاعة سياسية، بخطأ كبير وعقلية نفعية متواضعة الطموح على مقاس حجم مساحة صفحة قضايا النهار، مع “الاحتلال السوري للبنان” بمصطلحات رمادية بنصف الإيمان: التدخل السوري، الوجود السوري، إعادة تنظيم العلاقة السورية اللبنانية لما فيه مصلحة البلدين الخ…
اليوم يفرض السؤال التالي نفسه: هل كان كل شيء على ما يرام قبل التمديد للرئيس “إيميل لحود” واغتيال الرئيس الحريري؟ هل كانت المشكلة تنحصر في عدم تنفيذ “اتفاق الطائف” بهذا الشكل أو ذاك، كما يتفاصح بعض الأخوة اللبنانيين؟ أم في الذي أدى إلى أن يأتي اتفاق الطائف، بتواطىء الجميع، بالشكل الذي شرعن الاحتلال وفرضالإرادة السورية العليا في لبنان؟
للأسف يتباكى اليوم وكل يوم، البعض من القيادات اللبنانية، لغاية لم ينزل الله بها من سلطان، من وقت لآخر على عروبة حافظ الأسد وتابعه خدام ومن ثم على نزاهة وحكمة غازي كنعان والوطني المخلص حكمت الشهابي، في حين يحمل كل من هؤلاء ملفا جرمياً كبيرا بحق الشعبين اللبناني والسوري. أنهك شعبه ودمر اقتصاده وأهلك تعبيراته السياسية.
من غير المفهوم إصرار البعض اللبناني أن يستوعب الشعب السوري سيئات ومخاطر سلطته في خطيئة التمديد للحود وفي جريمة اغتيال الرئيس الحريري أو حصر جرائم الأجهزة الأمنية اللبنانية السورية في عدم تطبيق الطائف بالشكل المزبوط؟
ينظر السوريون ( كتلة الشعب السوري) باستغراب، إلى الوجبات السريعة التي تحاول بها قوى 14 آذار صياغة تحالفها مع القوى الوطنية السورية في صيغ انتقائية كما يحدث مع السيد “مأمون الحمصي” و” مكتب إعلان دمشق في بيروت” بطريقة لا تخدم الرجل، الحمصي، ولا انتفاضة 14 شباط / آذار، أن الشكلية الاستعراضية السياحية، التي يتم بها استخدام اسم المعارضة السورية في مهزلة الدعاوية الإعلانية على غرار ما تفعله الأنظمة، لن تنقل الماء إلا إلى طاحونة السلطة السورية لأكثر من سبب وعلة، وبالتأكيد لا تخدم العمل الوطني السوري، تلك الاحتفالية الوقتية بالمعارضة كما يحدث مع السيد خدام، متعهد “جبهة الخلاص” الضيف الدائم على قناة المستقبل أو الاستعراض/المحرقة، في حشر السيد “مأمون الحمصي” من واشنطن، في برنامج “قناة المستقبل” عن مسألة ترسيم الحدود في “مزارع شبعا” بين أكاديميين متخصصين لبنانيين، بطريقة لا تستقيم والنباهة توحي باستخدام المعارضة السورية بالآلية التي يتصرف بها النظام السوري في أتباعه/عملاءه في لبنان .
أن عملية استكمال استقلال لبنان واستنهاض ربيع بيروت، لا يكون إلا بالبناء على موقف استراتيجي يقوم على المشترك العام لمصلحة الشعبين السوري/ اللبناني، إذ بغير هذا البناء لا يمكن لرهانات تكتيكية المواجهة مع سلطة من وزن تلك السورية لحجم مصالحها في لبنان ولحجم وتنوع القوى اللبنانية المرتبطة مصلحيا وعقائديا مع النظام السوري. ولن يتم ذلك بدون إنجاز نهضة وطنية سورية لا تستطيع المعارضة السورية إنجازها وحدها ولا تستطيع ذلك بضع مقالات في جريدة النهار أو ظهور وجوه مهترئة شعبيا على تلفزيون المستقبل، أن ما تحتاجه هذه العملية هو أن تضع قوى 14 آذار قدراتها الدولية والعربية، المالية واللوجستية في معركة استنهاض الشارع الوطني السوري لضرب النظام السوري في كعب أخيله، الساحة السورية، وبغير هذا لن نرى غير الصراخ في الغابة. أن مسالة إقامة علاقات و روابط حقيقية مع الكتلة الشعبية السورية، تكتسب أهمية استراتيجية في عملية إنقاذ الساحة الوطنية في لبنان كما أنه بدون تحرير الساحة اللبنانية لن تتم بنجاح عملية محاصرة النظام السوري بالشعب السوري.
لقد حان الوقت لنا جميعا، أن نتعلم من درس التاريخ، في أن السياسة لا تنجز بالشعارات اللفظية، وحتى تتحول السياسة إلى قوة مادية يلزمها حاضنة شعبية مجتمعية تنقلها من اللسان إلى الشارع، من القول إلى الحركة، من الوجدان إلى الميدان، ولا يتم هذا الأمر بغير بناء الأسس المنطقية لعمل جاد وفاعل، وأول هذه الأسس احترام عقل الناس ومشاعرهم فإذا بقينا هكذا في الحركة الوطنية السورية مع التواضع في حجمها وقدرتها، كما في قوى الأغلبية اللبنانية ندور من حول قدور الطبخ القديمة فلن نأكل لحما بل سنجلد بالسياط مرة تلو الأخرى.
لا بد لممثلي الشعبين من الاعتراف الصريح ببعضهما، خارج حسابات الربح والخسارة والتبعية والاستخدام، والأجندات الوقتية الخاصة، لا بد من الاعتراف بأن هناك مشكلة تاريخية سورية/ لبنانية منذ استقلال البلدين، وان هناك صراعات وقوى على الساحتين وهناك مصالح ورؤى تتقاطع وتتفارق في أكثر من نقطة ومرحلة ولكن المشترك العام هو أهمية وضرورة بناء مداميك نهضة تقطع مع الاستبداد بإعادة المجتمعين إلى فسحة الديمقراطية بالمؤسسات لذا نقول بوجود معركة وعملية بناء مشتركة بين قوى الشعبين لموجهة استراتيجية مع النظام السوري وهي لن تنتهي بالمحكمة، لأنها لم تبدأ بالمحكمة واغتيال الرئيس الحريري، ولقطع الطريق على القوى المرتبطة به على أكثر من صعيد وهي قوى لا يستهان بقدراتها، سواء في سوريا أم في لبنان.
أن العلاقة الشعبية السورية اللبنانية تعاني من خلل مزمن وتشوهات انعدام الثقة والريبة والنفعية وقيم الربح السريع لأسواق غير متكاملة وثقافة عرجاء، فالشعبان السوري واللبناني بحاجة إلى عملية إعادة التعارف و التصالح بعد كل هذي السنين المتأزمة والملوثة بعلاقة كانت تسير على رأسها بممثلين لا يمثلون إلا قلة على طرفي الحدود غيبت الكتلة الشعبية من ذوي المصالح اليومية على طرفي حدود الدولتين، خاصة وان العلاقة السورية اللبنانية لم تكن أبدا على ما يرام مثلما يريد قوله المفوض السياسي الدوغمائي.
يعاني الشعبان والبلدان تاريخيا، من خلل في العلاقة بين المزاج العام السوري واللبناني، وهي ليست خصومات المهربين، بل توضعت دائما في تناقض المصالح بين برجوازيتين ونخب بلدين تفصل ساعة زمنية واحدة بين عاصمتيهما بفروقات هائلة في تناقض مصالحهما الاقتصادية والسوقية، وهي تصل إلى حساسية شعبية بين مجتمعين يرى أحدهما في نفسه، تاريخيا، بوابة الغرب على الشرق. و يرى الآخر في ذاته قلعة الشرق بوجه الغرب.
بدون مراجعة نقدية صحيحة وكاملة لا تقوم سياسات صحيحة على أنقاض تلك التي تشوهت في خزان النظام السوري. بدون إعادة تقييم للعلاقة الشعبية اللبنانية السورية، لا يمكن إرساء مداميك علاقة سليمة تشكل رافعة للعمل الوطني السوري ومن ثم اللبناني، من غير الارتكاز على نهوض الكتلة الشعبية السورية لن يكون هناك ديمقراطية في سورية وبالتالي لن تكون هناك ديمقراطية ولا حرية متحررة من استطالات النظام السوري الناخرة في جسد الدولة والمجتمع اللبناني.
لا تستنهض الكتل الشعبية بالخطابات الحماسية ولا بردود الأفعال، ولا بفتات المال في صيغة مكاتب معارضة سياحية بطريقة الشقق المفروشة.
خاص – صفحات سورية –