ذاكرة الصفحاترفيق شامي

من ذاكرة الصفحات: حكايات البؤس السوري – مصيبة الصناعيين السوريين المنبوذين

null

حكايات البؤس السوري

الحكايــة السادسة

أو مصيبة الصناعيين السوريين المنبوذين

هناك صناعة سورية ناجحة جداً تدخل ملايين الدولارات سنوياً لسوريا ربحاً صافيــاً وهي صناعة لطيفة جداً لا تسبب على عكس عائلة عبد الحليم خدام أي تلوث للبيئــة.

هذه الصناعة سأسميها الشركة الكيميائيــة لتكريرمشتقات البؤس السوري. وهي شركة كبيرة بفروع تنتشر في القارات الخمس. ومهمتها تكرير البؤس وتحويله إلى ذهب خالص ليس على طريقة السيميائيين والسحرة في زمن الإنحطاط القديم والحديث والذين يضحكون على بسطاء الناس كجدي لأبي الذي خسر في مطلع القرن العشرين مبلغاً كبيراً من المال حين أراد بمساعدة مغربي ذكي محتال أن يتوالد ذهبه ويتضاعف فماتت الليرات الذهبية القليلة ولم يبق منها تحت الرماد سوى قطع نحاس وأما المغربي فقد كان يسابق الريح مع غنيمته. وأنا أتصور إبتسامته بوضوح وكأنني أراه على ظهر حصانه الأبيض الجميل الذي كان من أسباب إحترام جدي لمقام الساحر اللص الأنيق.

لا، الذهب السوري القادم من المهجر ذهب حقيقي أنتجه المنفيون من عرق بؤسهم.

سنوياً يرسل مئات آلاف المهاجرين والمنفيين لذويهم في سوريا بعض الحين بيسروبعضه الآخربعسرمقتطعين كل قرش من لقمتهم ورفاهيتهم. فالعائلة هي الخلية ألأكثر ثباتاً في المجتمع السوري.

تغيرالعالم وإنهارت أنظمة سياسية جبارة وصعدت أخرى والعائلة السورية كدمشق لا تأبه بالزمن.

كل أنظمــة العالم المتحضر تحترم من يقدم سبباً لرفاهيتها إلا النظام المافياوي السوري فهو معادي للرأسمالية التي تكرم الصناعيين الكبار وعدو لدود للإشتراكية التي تحتفل بالعمال الذين يقدمون بأيديهم كل خير للمجتمع. لكن الطاغية إبتكرطريقة خاصة وحقيرة للتعامل مع مقدم الخيرات . فهو يمتص جهد وحياة المهاجرين ويحتقر شعورهم ويمنع عنهم أقل متطلبات الإنسانية. وليزيد الأمر سفاهة فإنه إخترع وزارة للمغتربين ليس لديها أية مهمة سوى الكذب والتطبيل والتزمير للنظام. وهي بذلك تنطلق من إفتراض واسع الإنتشار في كل أوطان المهاجرين والذي يقول: المهاجر إنسان بسيط مسكين يذوب حناناً بالوطن و لأنه يعيش في مجتمعات قليلة الكذب فإنه يسهل خداعه وبشيء من الكذب والديبلوماسية يمكن سحب آخر قرش منه. وهناك للأسف روايات كثيرة عن مهاجرين ومنفيين عادوا بكل ما جنوه ليسقطوا في يد سماسرة عديمي الخلق وليخسروا في أيام كل ما جنوه طوال سنوات الشقاء.

وأنا لا أظن أن إختيــار إمرأة “مثقفة” لهذا الدور هو محض صدفة أو قفزة تحررية للنظام بل هي خدعــة أحكم إتقاناً ، والنظام في دمشق ليس غبياً كما يظن البعض فهو أذكى من كل خصومه ولولا ذلك لما بقي نهاراً واحداً. إن أي رجل من رجــال النظام ذوي السوابق( مثل رستم غزالة مثلاً) لم يكن بوسعه ليجذب ذبابة لكل هذا التطبيل أما بثينة ذات العمود الفقري المطاطي والتي كانت للحظة تسميتها “وزيرة” لا وجه لها فهي ذلك الشخص الذي يصلح لمثل هذه المهمات.

أن تمد يد المساعدة لذويك يدل على حسن علاقتك سواء كنت مقتنعاً بما قاله ماركس وإنجلز عن أصل ودورالعائلة أم لا. سواء كنت مؤمناً أم ملحداً فأنت لا تقوم بتأدية المساعدة نتيجة تحليل إجتماعي تاريخي ولا لإيمان ديني إنما كمحصلة لمزيج فريد من الشعور بالواجب والحب والإمتنان والشفقة لأفراد أسرتك يدفعك لحنان شهم يشبه ذاك الذي يملأ قلب منقذ الغريق. وغالباً ما ينقذ كرمك ذويك من حاجة محرجة، وسوف يحمد ويمدح الكثيرون إلتفاتـتك الكريمة . إذن هذه الوقفة النبيلة ليست بؤساً لكنها تتحول إليه تحت سلطة الطغاة عندما ترى أن جزءاً من عرق جبينك يسيل في النهاية إلى جيوب من سببوا فقر ذويك وأجبروك في منفاك وأنت تبعد آلاف الكيلومترات أن تعمل لجيب مضطهديك. ناهيك عن أن هذه المبالغ الضخمة تزور الفقر في المجتمع السوري والذي سببه نهب السلطة فترى السوريين يعيشون فوق مستواهم الحقيقي وبذلك يكسب الطاغيــة نوعاً من الرضى والإستقرار الذي لا يستحقه.

البؤس يصبح محكم الإغلاق إن مرض أحب الناس إليك ولم يُسمَح لك بزيارته لأن الطاغية ووزارة مغتربيه وبثينة الكذابــة يبصقون يومياً على كل قيم الحضارة والأخلاق التي تنص على التسامح تجاه مرض أوموت أب أو أم.

لا زلت أذكر حتى اليوم البؤس الذي عصف بأيامي قبل سنوات عندما سقطت أمي صريعة مرضها الأخيــر. أرسلت لها عشرين سنة الأدوية لعلاج القلب من ألمانيا وأستمعت لصوتها الجميــل مرة في الأسبوع على الهاتف لضيق أحوالي المادية آنذاك. ولما أشرفت على حافة الهاوية التي لا رجوع من قعرها أرادت رؤيتي. رجتني أن أقدم لتراني للمرة الأخيــرة.

ورفضت السفارة ورفضت السلطات السورية رغم توسط بعض الزملاء والأقارب الذين ظنوا أن لهم نفوذ ما وإكتشف كل منهم بعد ذلك أنه ليس بأهمية قشرة بصلة.

كرر المسؤولون أنه علي أولاً أن أراجع شعبة المخابرات رقم 251 وفي وساطة ثانية صار رقم الشعبة 255 أو 256 أو شيئاً من هذا القبيل.

وأمي تسألني يومياً متى سأقدم وأنا اكاد أن أموت شوقاً لها ولدمشق وبدأت بعد مشاورة عائليــة وحرصاً على صحتها التي لم يبقى منها الكثير بالكذب عليها بترديد أنني قادم عن قريب “إن شاء الله”. وكانت تقول لي أنها تصلي للعذراء أن تحفظني لكي تراني عن قريب وأن العذراء تلبي طلبات أمهات المهاجرين دوماً، وأنا هنا على الهاتف أوافقها وأخشى أن ترى وجهي. كنت أقرف من نفسي بعد كل مكالمة هاتفية لأنني لم أكذب على هذه الإنســانة الكبيرة مرة حتى في أمور بالغة الخطورة قبل ذلك وهذا ما جعل علاقتنا أقرب للصداقة الحميمة منها لعلاقة أم بإبن.

كنت أسأل نفسي عن البؤس الذي دفعني للكذب بهذه الوقاحة؟ كنت أشتم نفسي وأقرر أن اقول لها في المكالمة القادمــة بإسلوب هادئ أنني أود في كل لحظة رؤيتها لكني إن وصلت إلى دمشق فسأختفي كما إختفى كثيرون من شرفاء هذا الوطن وأن بقائي سالماً في ألمانيا هو رغم كل الألم أفضل لها ولي لأننــا على الأقل نتكلم مرة أسبوعياً. لكن ما كنت أسمع أول كلماتها بصوتها الضعيف حتى كان الخوف على صحتها يثنيني عن عزمي.

طال صراع أمي مع الموت وكرهت النظام البعثي المافياوي يومياً. النظام الذي يدخل في ثنايا أكثر العلاقات حميمية ويخربها بسادية رجل الغاب. وفعلاً لا يحضر إلى مخيلتي عندما أفكر بالبعث سوى صور لدموية بدائية في العراق وسوريا لم تنجز في أربعين سنة من التسلط على حياة ومستقبل شعوبنا الحيوية سوى ذلاً تجاه أعداء الوطن وإذلالا لا حدود له لأبنائه.

توفت أمي بعد ساعات من حديثنا الهاتفي في ذلك اليوم البارد من كانون الثاني ولم يسمح لي النظام بمرافقتها لمثواها.

والمضحك المبكي – رحمك الله يا حبيب كحالة – أن تبلغ سادية البشر حد البلادة. فنفس الدولة التي شردتني والتي تحاربني بكل أقزامها الإعلاميــة ترسل ممثلة بالسيدة بثينة شعبان وعبرأحد رجالها في المانيا رغبة الوزيرة في مقابلتي وتكريمي في الجناح السوري لمعرض الكتاب الدولي في فرانكفورت عام 2004.

لم أتكلف حتى عناء الرد.

ليس الأمـر – وإن بدى كذلك – مسألة شخصية لأنه يلخص كنموذج فقط بؤس آلاف السوريين المنفيين سياسياً، إجتماعيــاً أو فقرا.

البعث بصيغته المافياوية السورية حطم مسلمة إحترام الموت لأنه قرر منذ لحظته الأولى تدمير حياة أي إنسان يقف في طريق سلطته. وتدمير الإنسان هو تدمير الحضارة.

الإنسان يتحتم عليه ليس لكونه مُسيساً بل لأنه إنسان الوقوف في طريق الطاغيــة ومن هنا إستحالة المصالحة أو ترميم علاقة الطاغية بكل ما هو إنساني.

الدمار لا يُرَََمَم.
خاص – صفحات سورية

الحقوق محفوظة للكاتب ولصفحات سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى