صفحات مختارة

في استبداد الديموقراطية

null
انور محمد

يمكن أن ننعى الدولة القومية، وننعى معها الشعب، فليس من دولةٍ قوميةٍ عند العرب. ثمَّة شعوب، ثمّة كيانات، ثمَّة دولة شمولية؛ قائد واحد، زعيم واحد، أب قائد. فالاقتصاد والثقافة تابعان، والاجتماعي ـ خيوط العلاقات الاجتماعية مقطوعة. فالدولة الأمنية العربية أخذت شكلاً استعمارياً، دولة تستعمر شعبها، فراحت الوطنية والقومية إلى غير رجعة، وحلَّت محلَّها العسكرية الطفيلية التي استولت على حياة الأمَّة/ حياة الناس.

عسكرية إنَّما بثياب الدولة المدنية، فمنها من حوَّل الملَكية إلى جمهورية والجمهورية إلى ديموقراطية ملَكيةٍ وراثية، والديموقراطية إلى استبداد لإحياء وبعث (السلفية) الدينية، كي تستعين بها على إجهاض كلِّ فكر نهضوي إصلاحي تنويري ـ عذراً لاستخدام المصطلحات بكثرة ـ فأشهرتْ سلاح المحرَّمات الثقافية إلى جانب استخدامها لقانون الطوارئ للدفاع عن عزلتها وعنجهيتها، فما عدنا نعرف دولتنا في تنقلها و«تطورها» هذا من الملكية إلى الجمهورية إلى القبليةِ فالطائفية، هي دولة دينية أم هي دولة مدنية/علمانية، أم هي دولة لرئيس؛ ملك؛ زعيم؛ فوقَ الجنس والشعب والأمَّة؟!..

طيِّب. لنفترض أنَّ عندنا دولة مدنية، لكنَّها في «الكيانات» العربية ليست أكثر من دولة نظرية، فما إن يفكِّرُ الشعب بالقيام بمظاهرة، أو تفكِّرُ بعض من نخبه الثقافية والسياسية بالاجتماع أو بالتوقيع على (عريضة) بيان يشجب فيه أو ينتقد جناب الدولة؛ حتى تشهر سيف الله في وجههم، فتخلط السلطة المدنية بالدينية. مع أنَّ القانون المدني سابق على الديني؛ و ذلك مُذْ ذبحَ قابيلُ هابيلَ، واستخدم السيف لمصلحته، رغم أن (أبانا) آدم عليه السلام كان قد حذَّره حينها بالقول: القاتل مقتول.

المثيرُ بعد ذلك أنَّ هذه الدول/الكيانات، وبعد أن تعتقل (عقلها) الذي في (نُخَبِها) السياسية والثقافية؛ تصيرُ تتحدَّثُ عن الحرية والتقدُّم و الإنسان والكرامة والعدل، وبشجاعة. في حين أنَّها تخافُ بل لا تخفي خوفها من الفكر النقدي، لأنَّ مثل هذا الفكر أوَّل ما يشتغل يدمِّر، يصيرُ يبيدُ مثل هذه الدول الفقاعات، لأنَّها دول فردية، دول تؤسِّس لمجتمع الاستهلاك لا لمجتمع الإنتاج من الزراعة والرعي، إلى الصناعة، والصناعة الثقيلة، بما فيها حق استخدام الطاقة النووية في صناعاتها ـ إنتاجها. لكن من أين (نجيب) هذه الدولة المدنية التي تؤسِّس لمجتمع الإنتاج؛ والبشر؛ السكَّان؛ المواطنون غير متساوين فيها؟. فثمَّة سيِّد واحد، و ثمَّة عبيد لا عدَّ لهم. ملك واحد/ رئيس واحد يتميَّز عن كل رعاياه، بأنَّه يملك الكلَّ بصكِّ عبوديةٍ، فيمجِّدونه ويعظِّمونه أو ينحرُهم كما النعاج. وكأنَّ ممارسة الحكم حقٌّ إلهي لشخصه، وهي مهنة؛ مهمَّة تتطلَّبُ مواهبَ وقدرات خارقة لا يمكن أن يقوم بها أيٌّ من أفراد الشعب، فلقد خصَّه الله بها وحدَه دون سواه من هؤلاء الرعاع/الرعية/الشغيلة/العبيد.

عسكرية طفيلية. لقد صرنا نترحَّمُ على أيام الاستعمار؛ حيث كنَّا نفيض بالوطنية ونغلي بالقومية. يومها كان الكُلُّ متساوين، ولم يكن الرئيسُ/الملكُ الذي هو في الحقيقة ليس أكثر من قاطع طريق؛ والذي كانت «نضالاته» ـ إنْ لَحِقَ يومها أن يُناضل، فأنتَ لا تعرف من أين انسلَّ؛ تناسل ـ بمثابة غزوات يستغلُّ فيها وبدهائه طيبتنا؛ فينهبُ، ويسلبُ باسم الثورة وتحرير الوطن من الاستعمار.

طبعاً هذا لا يعني أنَّ حال وصول الرؤساء والملوك عند غيرنا إلى السلطة هي أحسنُ؛ لأنَّه لا أحد يُصدِّق أنَّ رئيساً أو ملكاً في العالم كلِّه وصلَ إلى سدَّة السلطة بالقرعة أو بالانتخاب؛ حتى في الدولة العظمى الأكثر ديموقراطية أميركا. لكنَّها الأمَّة، لكنَّها الإرادة الجماعية، الذاكرة الجماعية التي لا بدَّ من رمز/رئيس فيه خلاصة القوَّة؛ الشعور بالقوَّة فتتوحَّدُ، تعيشُ الأمَّة، فنتحرَّر من سطوة الدولة. ونحن هنا لا نريده رئيساً لدولة إنَّما رئيسا لمشروع، أي أن يشتغل بصفته صاحب مشروعٍ سياسي، ثقافي، علمي، عمراني، نهضوي تحرري، وليس صاحب دكَّان طائفي / عرقي/ عائلي. فيتحوَّل المجتمعُ بل الأمَّة إلى ثكنة عسكرية، ونعيش حالة استبدادٍ ثيوقراطي.

رئيس/ملك، لكن أين نذهبُ بالعقل النقدي الذي يحمي حرِّيتنا الشخصية والعامَّة، بل يحمي «الدولة» ذاتها من أن تصير نظاماً تابعاً للقوَّة العظمى، أو تصيرَ عصابةً تسلطية تتسلبط على شعبها.

إنَّ قوَّة العقل النقدي تتجاوز قوَّة أيِّ نصٍّ وأيِّ دولة، فوحده (العقل الناقد) من يحررنا ومن يحفظنا من «الخممان» والتلف. فالله الذي يتذرَّعُ به الرؤساء و الملوك العرب ليحموا به دولتهم الدينية أو العسكرية الطفيلية؛ لم يَدْعُهُمْ / يأمُرهم بحرمان الناس من حقِّ التعبير، وقهرهم بالاعتقال والتجويع والتصفية الجسدية إذا لزم، وكأنَّهم فوقَ الله، فينسون أنَّ الحاكم إنَّما هو خادمُ الأمَّة، خادمُ الشعب.

([) كاتب سوري


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى