الاتحاد الاشتراكي (الناصري) السوري بين التخوين والتدجين
د. عبد الرزاق عيد
أدهشني هذا الهجوم الصاعق ضدي (شخصيا) الذي قام به حزب سياسي عريق في سوريا، وهو (حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي الناصري في سوريا) الذي كان قد أسسه أحد الصانعين الفاعلين للحراك السياسي في سوريا على مدى نصف قرن وهو الدكتور جمال الأتاسي، والذي لعب دوراً مميزاً في الحركة الناصرية ليس السورية فحسب، بل والعربية من خلال الظلال الفكرية والنظرية التي وشح بها حركة حزبه، بدءاً من السبعينات، فجعل منه حزباً مميزاً في الحركة الناصرية سورياً وعربياً، كون هذه الحركة ظلت دائما تشكو الفاقة الفكرية والفقر النظري عموماً، نظراً لارتباطها بالسيرة الذاتية والشخصية للممارسة السياسية الإجرائية واليومية للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فمنحها الراحل د. جمال رونقا نظريا من خلال انفتاحه على الماركسية.
لقد نشر موقع حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الد… وسأكتفي بهذا الجزء من الاسم نظراً لصعوبة حفظ الاسم الطويل للحزب هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا أستسيغه لأنه يذكر بالاسم الطويل والمعقد لليبيا العظمى… التي تتوخى العظمة من خلال التعويل على اسمها!
نقول : لقد نشر موقع حزب الاتحاد الاشتراكي مقالي التضامني مع أسيرة الضمير الوطني السوري : ” سجن فداء الحوراني خط وطني أحمر “، حيث أخذه عن أحد المواقع الوطنية والديمقراطية العربية، ولقد أردف المقال بما سماه : “رأي الموقع”، إذ انقض علينا بـ “بهدلة توجيهية” تحت عنوان : ما هكذا تورد الإبل يا د. عبد الرزاق!
وثم قام الموقع بإرسال هذا (التوبيخ) باسم “حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي الناصري… الخ” على شكل رسالة مستقلة معممة على (الجماهير العربية وقوى الشعب العاملة َ!)، يشخص وضعي الكارثي بأني ما زلت في خندق البكداشية (بكل رذالاتها)…
قبل أن أناقش هذه (الخطاب: البهدلة)، أريد لفت النظر إلى أن نقدي بل وفضحي كان “للمنسحبين” من إعلان دمشق، وليس لمن “جمدوا” نشاطهم كما فعل الحزب الذي يدعوني للتأكد أنهم : “لم نخرج من إعلان دمشق” وندعوك لقراءة البيان الصادر بهذا الخصوص.
عدت إلى نص مقالي متسائلاً: كيف استنبط الأخوة الناصريون هذه الدلالات في المقال؟
فوجدت أن أدعوهم –أنا بدوري – للعودة إلى المقال ليجدوا بأن ” ابلي لم ترد حياضهم ولم تقترب من نوقهم … و أني لم أتحدث إلا عن (أفراد أو الأصح فرد) ممن أسميتهم: “المستوطنين السوريين في الغرب منذ عشرات السنين”، فالحديث إذن ليس عن الحزب لأنه ليس مستوطناً في الغرب لا سمح الله، ولا حتى عن الفرد الوحيد الناصري المعروف الذي يمثلهم في الغرب، بل كان الحديث موجها إلى بعض مدعي الدفاع عن حقوق الإنسان، ومن ثم تركز الحديث عن “صنديد وحيد” أتى لسوريا ليفاوض السلطة باسم الشعب السوري لأن المعارضة ترفض الحوار فيما فهمنا منه أخيرا…!
وليعلن حينها أن المسؤولين السوريين مستعدون لإرسال الطائرات لاستقبال كل سوري ممن لا يرغب بالعودة على دبابة أمريكية، لكنهم لم يجدوا بين مئات الآلاف من المهجرين والمنفيين واللاجئين وطنياً واحداً يأنف من امتطاء صهوة الدبابات الأمريكية سوى هذا “الصنديد” المذكور، وذلك بعد أن اكتشف المذكور خطأ المعارضة السورية وتشنجها بعدم محاورتها النظام اقتداء بحكمة “الجبهة الوطنية التقدمية”، وبذلك فهمنا سر اهتمامه بكل حقوق الإنسان في العالم ما عدا حقوق الانسان في سوريا، وذلك لكون المساجين السوريين لا يمتلكون حكمة وعقلانية “الجبهة الوطنية التقدمية” التي يدعو اليوم إلى حوارها، ولكون هؤلاء المعتقلين السوريين يؤ هلون في المعتقلات –على الأغلب – على فن الحوار، ولذافقد كان حديثنا يخص “هذا الصنديد وشركاه” ولا علاقة للاتحاد الاشتراكي…. الذي نعرف أنه جمد عضويته فقط لأجل من الوقت نأمل أن لايكون طويلا، ولا نظنه يراهن على الحوار مع الجبهة الوطنية التقدمية الذي كان من أوائل من اكتشف حقيقة تبعيتها للسلطة، وإن كان هناك بعض العناصر في الاتحاد ممن يريد العودة إلى هذه الجبهة من النافذة ” البكداشية ” عبر صهر البكداشية ….!
لذا فقد تحدثنا في مقالنا عن هذا (الصنديد الجبهوي) وشركاه الذين يريدون أن يلقوا علينا مواعظ في الوطنية و”ينسحبون” من إعلان دمشق وكأن أحداً شعر بدخولهم لكي يشعر بخروجهم” ولذا دعوناهم لكي يقدموا “طلب انسحابهم” إلى الفرع الأمني المتولي شأن ملاحقة نشطاء إعلان دمشق…!” وليس لجماعة وأنصار إعلان دمشق!
إنني إذ أستعيد هذه الصياغات ليس لتوضيح الملتبس، فليس ثمة التباس على الإطلاق، بل إنني أقوم بذلك لكي يشاركني القارئ هواجس التساؤل عما حمل الاتحاد الاشتراكي على القيام بهذه القراءة المزورة بل الكيدية المحرضة على الفتنة : هل هو الايقاع بين أطراف المعارضة، أوالمعارضة ومثقفيها، أم أنها في مستواها النهائي لا تنطوي إلا على الإفلاس الفكري والسياسي؟
إنني على يقين كامل وجازم بأن الأخوين القياديين العزيزين الأستاذ عبد المجيد منجونة والأستاذ حسن إسماعيل عبد العظيم لم يقرآ المقال، وأن ثالثهم في القيادة هو الذي قرأ، وهو الذي نقل، وهو الذي فسر، وهو الذي أوحى، مما ورط الأخوين العزيزين بأن يوافقوا أن تكون (البهدلة) باسم “رأي الموقع”، ومن ثم باسم الحزب كله، حيث ضمير “نحن” الذي يعلن : “نحن جمدنا نشاطنا في إعلان دمشق…”، يتحدث باسم حزب الاتحاد الاشتراكي…الخ، وليس باسم ثالثهم على الأقل…!
ما قصة ثالثهم هذا؟
إنها قصة أحد أضلاع المثلث القيادي في الاتحاد الذي يتباهى بصلته بقيادة أجهزة الأمن، بل ولا يتردد أن ينقل رسائل تهديد من المسؤولين الأمنيين إلى شخصيات معارضة، وبلغ به الأمر حد التنسيق معهم بل والتكليف من قبلهم أن يقوم بصياغة عريضة لـ (تخويننا)، لكن الأخلاق الوطنية لكل الذين دعاهم للتوقيع فرفضوا هي التي حالت دون مواصلته لمهمته (الوطنية والقومية)، لقد كان هذا قبل أن تلجأ الأجهزة الأمنية إلى هذا الاختراع (التخويني) خلال الحملة على فضلاء اعلان دمشق، بل ربما كان عنوان هذه الحملة الراهنة باقتراح (تنسيقي) من قبل الشخص (الثالث المرفوع ) إياه ومن على شاكلته حيث بدأ (معركته التخوينية) منذ انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق من خلال تخوين الأخوة الأكراد ، و سبق أن حاول أن يوقع بيني وبين الأخ الأستاذ حسن عبد العظيم الأمين العام للحزب، من حيث اقناعه بأن ثمة مؤامرة عليه تستهدفه من خلال حملتين : حملة يقوم بها رياض الترك من الوسط السياسي، وحملة يقوم بها عبد الرزاق عيد من الوسط الثقافي… وقد وضحت هذا الأمر للأخ الأستاذ (أبو ممدوح )، وأشرت له محددا المقالات المقصودة بأنها تهدف الاساءة إليه، ليعود إليها وليتأكد بنفسه من واقع حال الأكاذيب التي تنقل إليه، وأن هذه المقالات كانت تنطوي على صيغ للتضامن معه عندما تمت احالته إلى محكمة عسكرية لحمله منشورات ممنوعة، متسائلا حينها عن ممكنات اللقاء على نقطة مشتركة مع السلطة للحوار إذا كانت استهانتها بالمعارضة تبلغ حد أن تحيل الناطق باسمها ورئيس التجمع الديموقراطي والناطق باسم اعلان دمشق حينها إلى محكمة عسكرية من أجل حمله منشورات يصدرها التجمع منذ ربع قرن….!
ولا أريد أن أتحدث عن حملة تضامنية ضد قرارات أمنية كانت موجهة لاغلاق مكتب الأخ الأستاذ عبد المجيد منجونه زميل هذا (الثالث المرفوع) في القيادة، فكان هذا الثالث هو المعرقل الوحيد لهذه العريضة حتى اضطررنا إلى أن نكتبها بأنفسنا ونتجاهله، وهذه الواقعة يعرفها الكثيرون…! والوسط السياسي كله يعرف وقائع أكثر مما نعرف، ولن أضيع وقت القاريء فبإمكانه أن يعرف بنفسه الكثير عند مجرد ذكر اسم هذا الرجل، إذ كان-كما أشرنا- آخر انجازاته (القومية ) تلك الفتنة التي شهدها المجلس الوطني لإعلان دمشق، حيث قام بكل (شهامة قومية عروبية) ليخون جزءا أصيلا من مكونات شعبه السوري، وهم أبناء وطنه الأكراد، فردوا تحيته بأحسن منها عندما حجبوا أصواتهم –جزاء وفاقا-عن رفاقه المرشحين عن الحزب، مادام أحد قادة هذا الحزب يشكك بوطنيتهم، فخسر الحزب عشرات الأصوات الكردية بسبب “المهمة التخوينية” التي يقوم بها هذا (المناضل العروبوي)، مما ترتب على ذلك هذه الأزمة التي تعيشها المعارضة السورية اليوم…!
أليس من حقنا أن نتساءل عن دلالة هذا اللقاء (التخويني ) بين حملة التخوين التي بدأها (الثالث المرفوع)داخل المجلس الوطني لإعلان دمشق، وحملة التخوين التي قامت بها الأجهزة الأمنية وهي تغطي حملة الاعتقالات ضد نشطاء اعلان دمشق الأشرف والأنزه وطنيا وقوميا…! هل هي صدفة أن يبدأ التخوين من داخل المجلس من قبل بعض من يسمون أنفسهم معارضة، ويستمر هذا التخوين بعد انعقاد المجلس مع حملة المخابرات…!؟
ها قد أتى المثال الملموس لدور هذا (الثالث) من خلال توريط حزبه بشتيمتي شخصيا، إذ من النوادر أن يقوم حزب بالهجوم على فرد أعزل بل وحتى لو كان مسلحا… بالقلم ، وذلك من خلال الافتراء بأني أقصد الحزب في حين كنت ألمح من بعيد قاصدا ذلك (المستوطن الصنديد داعية الحوار الجبهوي المتعيش على دماء أحرار سوريا)…!
ما كنت أريد تضييع وقت القارئ بالحديث عن شخص أو أشخاص، لكن أهمية هذا الحديث تتأتي من خلال ما عمدنا إلى كشفه في التساؤل عن آليات علاقة النظام بالمعارضة، وما يتردد عن اختراقات الأجهزة الأمنية لصفوف المعارضة: أحزاباً، لجاناً، جمعيات، أفراداً، ولذا فعلى القارئ أن لا يتوقف عند ما أوردته من وقائع إلا بوصفها أمثلة على المنظومة الأسلوبية التي تلجأ لها الأجهزة الأمنية في صيغة (الترغيب والترهيب)، وهذا أسلوب الاستبداد الداخلي المحلي (الوطني) الديكتاتوري مع ضحاياه، وهو ما يعادله عالمياً : صيغة (الجزرة والعصا) في علاقة الكبار مع الصغار!كما تفعل الولايات المتحدة مع آباء النظام البطركي العربي الفحولي والذكوري : لكن على أهل بيته، والمخنث، المتدله، الممانع المغناج تجاه الفحولة السادية التي عبر عنها بوش الأب : بأنه دفن عقدة الخصاء تجاه فيتنام بالرمال العربية، من خلال هزيمة (هبل/صدام) الطغيان العربي الأكبر، بطل البوابات الشرقية… لنتصور في هذا السياق دلالة (البوابات) وفق قراءات فرويد للنفس والأحلام…!
بل والقائد الضرورة الوريث الشرعي لكل تهويمات الايديولوجيا العربية المهزومة “العفلقية – البكداشية – الهيكلية (محمد حسنين هيكل)”، الذي يقترح علينا في آخر تهويماته أن نعامل الولايات المتحدة كثور هائج يجب ترويضه بدهائنا أي بدهاء هيكل! لنتصور أضغاث الأحلام بل والأوهام هذه التي تقتات صديداً مصفى من الهزائم، كيف تتصور نفسها بأنها عين الحكمة وموئل الصواب والخبرة والتجربة التي تخلص إلى أن الآخر الأميركي ليس إلا (الثور) ونحن العرب (الغزلان)، المطلوب منا الخفة والرشاقة واللياقة لصرع هذا (الثور الغبي) الذي يحمل- لشدة غبائه- ما بين قرنيه آخر منجزات الحداثات الكونية التقنيبة في كل مجالات العلوم والاقتصاد والإدارة والاتصالات عبر تاريخ البشرية…! وذلك من خلال فهلويات (هيكل) التي لا تزال –منذ نصف قرن- تشكل مرجعية فكرية وسياسية لكل الهزائم السابقة واللاحقة لايديولوجيا الاستبداد باسم القومية المزدهية بكمال بهائها اللغوي وفخفختها البيانية التي ستصرع برشاقتها البيانية (الغزلانية ) الثور الهائج الأمريكي، وهي التي لا تزال تتلقى ضربات جزمة (الفأر الاسرئيلي) على جبهتها (الفيلية) الشعارية الصارخة المهددة والمتوعدة بالرد في المكان المناسب والزمان المناسب، هذا الزمان الذي لا يزال مستمرا بوصفه امتدادا لزمن هزيمة حزيران بشكل مكثف : حيث ما كان هزيمة عسكرية في حزيران غدا اليوم –بفضل الخطاب القوموي الظفروي الديماغوجي- هزيمة حضارية ومجتمعية وثقافية وأخلاقية، وذلك لأنه استمر يقدم غطاء من المشروعية الايديولوجية لأنظمة مهزومة تلطف نحوها (هيكل) فلفق لها تسمية (النكسة)، ثم واصل الخطاب القوموي التلفيقي (الديماغوجي) مسار أستاذه هيكل في تغليف هزائم هذه الأنظمة بل وجرائمها اللاحقة بصياغات زائفة عن انتصارات حرب رمضان المباركة والتي توجت بكامب ديفيد، وحرب تشرين التحريرية التي توجت بتحويل الجولان إلى ظلال شاحبة في ذاكرة وطنية مدمرة بالقمع والقهر والاستبداد، بعد أن أخترع لها الخطاب القوموي أغلفة شرعية تستخدم عند الحاجة، عبر ملفوظات لا تنطوي دلاليا إلا على ما يعاكسها واقعيا وحقيقيا : (صمود –تصدي –وأخيرا ممانعة ) ، أنظمة كان عليها أن تنزاح –على الأقل- لتفتح الأبواب أمام خيارات شعبية ووطنية وقومية بديلة، لو كان متاح لهذه الشعوب أن تعبر عن نفسها عبر الأقنية الديموقراطية كما يحدث في البلدان الليبرالية : أليفة كانت أم متوحشة….!
تلك هي الآلية القاتلة للخطاب القومي :مديح الذات وقدح الآخر، هكذا يحل مشكلاته مع العالم عبر شتمه، والشتم هنا يتحول إلى أداة سحرية للانتصار، لأن شتم الآخر هو تعبير عن عدم الاعتراف به، وهكذا يكفي العقل الميثي أن لا يرى الأشياء لكي تغيب عن الوجود، فعوضا من أن تشكل الولايات المتحدة الأمريكية حالة من التحدي والاستفزاز للعقل والارادة كما شكلت لليابانيين الذين حولوا قنبلة هيروشيما من أداة مرعبة للموت إلى أداة صارخة للحياة، من خلال دخول معركة التحدي مع عدوهم الذي هزمهم ومن ثم امتلاك سر تفوقه لمواجهته بسلاحه لا بسلاح أرواح الأجداد التي يكفي أن ننفخها بوجه الأعداء عبر الشعارات والتمائم والتعوذات والشعوذات الهجائية للآخر الذي يكفي أن نسميه ثورا حتى يأتينا خوارا خائرا أمام لوذعيتنا، إذ لولا اعترافاليابانيين بالهزيمة لظلوا حتى اليوم يصرخون مثلنا نحن العرب مهددين متوعدين بالثأر، لكن في الوقت المناسب والزمن المناسب…!
على كل حال أظن أن (الرذالات) التي رشحت عن خطاب (المخترقين التخوينيين) في الاتحاد تحت اسم “تعقيب موقع الاتحاد “، اخترعت مشكلة مع مقالي الأخير لتعتبرها فرصة لشتيمتي، واصطنعوا الالتباس في فهم المقصود، ليقولوا ما بداخلهم وما يوحى إليهم منذ زمن، ولذا فأنا مضطر للجوء إلى حق الرد!
يتأسس (توبيخ) الاتحاد الاشتراكي لنا – على فكرة أني “مازلت في خندق البكداشية: بكل رذالاتها… وأنني انتقلت (من اليسار المسفيت) إلى الليبرالية المتوحشة…”
والنقطة الثالثة التي يريدون البرهنة من خلالها على ما افتعلوه من تلفيق على لساني بأني أتهمهم بتبعيتهم للمخابرات… فيلقون القفازات في وجهي ويعلنون أنهم : “وكما “نعرف” من حرك الساكن في الساحة نحن… وأنهم – رابعاً –من يحملون الجمر ويتقدم لساحة المواجهة… وليس أولئك الذين يغلقون على أنفسهم أبواب غرفهم… (مثلي) طبعاً.
هذا المقال لا يسمح بالإفاضة الموسعة بالنقاشات النظرية، سيما وأني أصدرت كتاباً تحت عنوان “نحن والبيريسترويكا” منذ حوالي عشرين عاماً، تظهر من خلاله درجة تموضعي وشكل خروجي من خندق “البكداشية”، معبر عنها بلسان المرحوم خالد بكداش ذاته “عبد الرزاق عيد وضع نفسه خارج الحزب“.
أي أنني تخارجت مع (البكداشية) منذ عقدين، وقطعت معها إلى حد اتهامي- من قبل الاتحاد نفسه- بالانتقال إلى “الليبرالية المتوحشة”!؟
لكن السؤال الذي يبدو غريبا، هو : هل تخارج معها الفصيل القومي (الناصري – البعثي) المشكل الحليف الاستراتيجي لها فيما كان يسمى حركة التحرر الوطني العربية؟
البكداشية باختصار: هي الستالينية التي قطعت نهائياً مع الميراث الليبرالي الديمقراطي الغربي، رغم التحالف التكتيكي خلال الحرب العالمية الثانية، حيث تبنت الستالينية الأطروحة القائلة أنه كلما تعمقت الاشتراكية اشتد الصراع الطبقي، أي ازداد العدو الطبقي (البورجوازية الغربية) شراسة، وعلى هذا فقد غدت الليبرالية الديمقراطية الغربية هي العدو الرئيسي للاشتراكية وحصنها الاتحاد السوفييتي والطبقة العاملة الأوربية، وحركات التحرر الوطني، المسماة في حينها : قوى الثورة الثلاث.
وعلى هذا فقد قطعت (البكداشية) مع الميراث النهضوي الليبرالي التنويري العربي بوصفه تراثاً برجوازياً امتدادا للقطع الستاليني مع الميراث الليبرالي الغربي الديموقرطي بوصفه تراثا رجعيا بورجوازيا مضحين بأعظم ما أبدعته روسيا ثقافيا وفكريا وأدبيا (دوستويفسكي –تولستوي – تشيخوف- ومن المفكرين بليخانوف…الخ )، بعد أن شكل مفخرة روسيا في المساهمة بالثقافة الانسانية، تماماً كما قطعت (الناصرية) مع هذا الميراث الليبرالي المصري الأعمق عربياً وعالمثالثياً، على اعتبار أن النهضة ستبدأ مع الناصرية على انقاض كبار الثقافة الليبرالية الذين هوجموا بوصفهم رجعيين (طه حسين –العقاد -أحمد أمين مثلا )، وهم الذين لا يزالون الأهم حتى اليوم، و الأمر نفسه سيكون مع البعث السوري الذي ارتشف – مع الأوائل – بعضاً من الذوق الثقافي الليبرالي الغربي، لكنه مع السلطة العسكرية الفلاحية الشعبوية ستسحق التوجهات الثقافية الليبرالية، ناهيك بصدام حسين الذي (فلج) الشفافية “العفلقية” البرجسونية ذات النكهة الباريسية، إلى ثقافة شعارية ذات رطانة شعبوية فظة ورثة، من خلال ميراث ثقافته الفلاحية (الفلوجية).
في هذا السياق لا بد لي من التنويه : لرد تحية شاكرا ومحييا الأستاذ محمد المحمد الذي فهم من استخدامي لمصطلح (الفلاحية) بوصفه استخداماً أخلاقيا ينطوي على استعلاء طبقيً ازدرائي، وذلك في مقاله في (النداء وأخبار الشرق) يوم 6/12/ 2008.
أقول لابد من التنويه ردا على الاستفسار النابه للاستاذ محمد المحمد إلى أني استخدم هذا المصطلح (الفلاحية) بدلالته السوسيو-ثقافية السياسية العلمية وليس الأخلاقية، أي بالمعنى الذي يميز فيه أرسطو الانسان بوصفه حيوانا سياسيا،كما كنا قد أشرنا في مقالنا السابق، والذي يتأسس عليه مبدأ (دولة – مدينة)، باعتبار المدينة ثمرة الحضارة، أي أنها نهاية التجمعات البشرية التي يلحظها أرسطو في ترسيمة : (الأسرة – القبيلة – القرية – المدينة )، والمدينة بالنسبة لهذه الترسيمة الأرسطوية تغدو هي “الدستور “، والدستور بدوره هو الدولة، والدولة هي المدينة، فليس هناك دولة قرية إلا تلك صنعها ويصنعها الشعبويون –حيث الشعبوية هي الرداء الفكري للفلاحين تعريفا- العروبويون الشعاراتيون والشعائريون من أصحاب الطقوس الهتافية، حتى ولو كانوا أبناء مدن، أي إنها تلك الدولة – القرية التي تصنعها –ما سميناه من قبل- دول تحالف نخب رعاع الريف مع حثالات المدن.
نعود لمناقشة خطاب الاتحاد فأقول :إنني اعترف وقد اعترفت من قبل أنني كنت أنتمي إلى اليسار “المسفيت”، لكنني قمت بعملية فك ارتباط عميق نظرياً وعملياً، فكراً وممارسة، لكن ليس بالانتقال إلى الليبرالية “المتوحشة” كما يعبر تعقيب الاتحاد الاشتراكي باستخدام المفردات والمفاهيم بطريقة كاريكاتورية. فالليبرالية المتوحشة: هي تلك النخب من أساطين المال الذين يفترسون الحدود الدولية والقيود الوطنية على حركة رأس المال، حيث تنتشر على مساحة القارات دون رقابة ضريبية أو جمركية أو حدود سياسية… فما صلة مثقف حائز على شهادة الدكتوراه من السوربون الباريسية، لم يتح له في وطنه –منذ ثلاثة عقود – ليس حق العمل فقط، بل حتى حق أن يفتح بقالة ليعيش!
ما هي إذن الليبرالية التي تسربت إلى خطابنا الفكري والسياسي؟
إنها ببساطة الليبرالية (الثقافية)، حيث عبرنا عنها ذات يوم بصيغة : أن الحياة السياسية المقفرة في سوريا بعد تصحير شمولي يمتد إلى ما يقارب نصف قرن بحاجة إلى مياه (ليبرالية) لبعث الحياة فيها من جديد خارج المنظومات المعتقدوية المتيبسة والمتخشبة، أي لبعث الحياة في كل المنظومات الفكرية والسياسية (القومية – اليسارية – الإسلامية) التي تخشبت لدى المعارضة، وتحنطت لدى السلطة. إن التيارات السياسية والايديولوجية في سوريا بمجموعها بحاجة لأن تذاب حماوتها بمياه ليبرالية باردة، حيث الليبرالية بهذا المعنى تعني امتلاك ثقافة التسامح التي معادلها السياسي هو البرلمان، فالمجتمعات والدول التي تعيش دون المرحلة (البرلمانية) هي مجتمعات الصوت الواحد، والرأي الواحد، لأنها لم تتدرب على الحوار والتعايش تحت قبة البرلمان، أي لم تتدرب على التسامح، فهي لذلك مجتمعات تعدد السوط لا تعدد الصوت.
بل إن الأمر يغدو أكثر سوءاً عندما توجد بلدان فيها (مجالس شعب) غير (برلمانية) أي (برلمانات السوط)، حيث الجميع يهبطون إلى مستوى كائنات مفرغة جوفاء طوعاً ليس من كائنيتها الاجتماعية الحوارية فحسب، بل الكائنية الطبيعية، حيث أن للطبيعة ذاتها أصواتاً متمايزة، إذ يختلف صوت خرير الماء عن حفيف الأوراق، ويختلف زئير الأسود عن مواء القطط أو نباح الكلاب.
أي كنا نريد ليبرالية ثقافية، مدنية، حضارية، تقبل التعدد والتغاير والاختلاف، ومن ثم ترتقي بالأفراد والأحزاب إلى مستوى يتجاوز (وحشية) حوشي الكلام وسفاهته بأن يكيل السباب حتى لأصدقائه، بل لكي يتحضر إلى الحد الذي يرفض أن يشتم حتى أعدائه، أي أن تصقل تهذيبه المدني، كي لا يصف حتى (البكداشية) التي يختلف عنها فكريا بالرذالة، ومن ثم يحولها إلى شتيمة يقذفنا بها بحق أو بدون وجه حق الأصدقاء وهو الأولى بصفاتها حدا وتعريفا، فكيف إذا كان الاتحاد الاشتراكي يريد أن يصنّع عدواً، ليقوّله ما لم يقله، فهل إذا قلنا بعدها: إن من يقترف كل هذه الموبقات الأخلاقية (التزوير والاختلاق) لا يمكن إلا وأن يكون مكلفاً وموجهاً عن بعد، لأن هذه الموبقات ليست من القيم الأخلاقية لحزب سياسي أسسه مفكر وسياسي كجمال الأتاسي.
يعتقد القومويون إن تخلينا عن المصطلحات الاشتراكية : (الطبقات – الموقع الطبقي –الصراع الطبقي…) هو نوع من التحول في الموقع الطبقي، وليس تطوراً فكرياً من العقل الغريزي إلى العقل العقلاني المنشد إلى انتاج الوعي المطابق بالزمن المطابق.
فالعقلانية -والأمر كذلك -لا تسأل عن انحيازاتها الطبقية، هل هي عقلانية الأنظمة أم عقلانية الطبقات الشعبية التي هي وحدها صانعة التغيير كما تردد الصياغات النمطية للأدبيات الماركسية (المسفيتتة) المترعة بالحتمية اليقينية ذات اللوثة الميتافيزيقية . فالمخلصون من هؤلاء يتجاهلون أو يجهلون بسبب انزياحاتهم الغريزية والعاطفية المشاعرية الغنائية أن مصالح الفئات الشعبية لا تكمن في خداعها بالشعارات واللهج باسمها شعبويا من خلال تمجيد ثوابتها العفوية والغريزية، بل بالبحث العقلاني عن الوسائل التي تتطابق مع غايات تحررها الاجتماعي (العدالة – لقمة العيش – حق العمل… الخ)، وأن الوسائل الوحيدة- لتطابق الوسيلة مع الغاية وهذه أهم قواعد العقلانية- تكمن في التحرر السياسي بوصفه المدخل الضروري والوحيد – إلا إذا كانوا لا يزالون يعتقدون بممكنات التكرار النمطي لثورة اوكتوبر – من أجل التحرر الاجتماعي والوطني، لأن الحريات السياسية هي الوحيدة الكفيلة بتحرير الوجود المادي الملموس للفرد أولاً، ليكون فاعلاً وحرا، أي مشاركا سياسيا ونقابيا وحزبيا، لكي يكون ومن ثم طليقاً من أسر عبودية الاستبداد الروحي والعقلي والتراثي والأبوي، وذلك في سبيل تحرره من عبودية الاستغلال الرأسمالي الداخلي، والامبريالي العالمي ثانياً. إذن إن استدعاءنا لليبرالية الثقافية لم يكن نتاج تحولات في موقعنا الطبقي من عاطل عن العمل إلى حوت مالي متوحش، بل نتاج القطع المعرفي والفكري مع كل منظومات التفكير الشمولي الاستبدادي بكل طبقاته المشكلة لوعينا، وتحولاتنا الفكرية من (إسلاموية إلى ناصرية قوموية إلى شيوعية مسفيتة أو بكداشية أو يسارية هرطوقية… إلخ) أي أننا قطعنا مع النواة المعرفية “المعتقدوية” الكامنة في هذه التيارات التي مررنا بها سياسيا وفكريا، مثلنا مثل معظم ابناء جيلنا الذين توزعتهم هذه التيارات الثلاث بعد أن تم وأد الليبرالية مع الأنظمة الشعبوية المقولاتية القومية واليسارية، والتي لم تبرهن عن أية فعالية سوى فعالية نواتها المركزية المعرفية القائمة على : المركزية الديمقراطية والمركزية الإيديولوجية والمركزية السياسية، حيث هناك مركز واحد يقرر ويفكر ويمارس بالنيابة أو بالوصاية أو بالأوامر قيادة الجماعة انصياعاً أو إذعاناً، وإلا فالتكفير إسلاموياً، أو التخوين قومياً، أو الانحراف والتحريف والانسلاخ طبقيا ومن ثم عدو الشعب شيوعياً (سوفيتياً).
ولذا كان لا بد لنا في مواجهة الشمولية، ومع التحول العالمي باتجاه أولوية الديمقراطية، من استدعاء الفضاء التاريخي الثقافي لليبرالية معرفياً، وذلك لاستدعاء قيم التنوير العقلانية – التاريخانية – التقدم – النهضة… إلخ.
فالديمقراطية بدون القيم الليبرالية الحديثة الفكرية والثقافية 🙁 حيث الحريات – المواطنة – حقوق الإنسان تتأسس على المقولات الليبرالية عن التقدم والنهضة والتنوير) أي بدون الانطلاق من الاعتراف بالفرد كمالك لنفسه وجسمه وعقله، بوصفه هو الوجود الملموس والحقيقي، فإنه ستلتهمه مقولات مفاهيمية هيولية وبالمحصلة شمولية عن (الأمة – الطبقة).
إذن فكل الأحزاب الشمولية إذا لم تتحرر من سديمية هيولا شعاراتها الغيبية لتنطلق من ذات الكائن الفرد بوصفه القيمة الأولى التي تمنح مفهوم الجماعة قيمته الانسانية، فلا سبيل إلا إلى ديمقراطية شعبوية، رعاعية، كمية، دهماوية- التي كانت مقتل الناصرية- التي أطلقت الحركات الجماهيرية، لكنها أذلت الفرد بوصفه الحامل المادي والحسي لمعاني الحرية والكرامة وقيم رفع الرأس عاليا.
والناصرية في ذلك كانت محكاة للنموذج الأول (السوفييتي)، وموازية ومناظرة لكل الأنظمة الشمولية التي وضعت نفسها في موقع الوصاية على العقل والقلب، من خلال تشابك الاستبدادين : الديني أو اللاديني (العلمانوي) والاستبداد السياسي.
لهذا فإن ليبراليتنا هي دعوة إلى فضاء فكري وثقافي ومدني يتسم بالليبرالية تلبي حاجة تحرر مجتمعاتنا من وحشية الاستبداد، فالليبرالية الثقافية لا يمكن أن تكون وحشية بل الإيديولوجيات الشمولية : القوموية والطبقوية والدينية (الثيوفراطية) التي تتجاهل ذات الفرد وأشواقه للحرية والاستقلالية الذاتية هي المتوحشة.
أما الليبرالية اقتصادياً فلم نعنَ بها من موقعنا الفكري والثقافي، لأنا لسنا بصدد وضع برنامج سياسي، فهل يعقل أن نتهم نحن العاطلون عن العمل بالليبرالية المتوحشة لصالح الدفاع عن نظام “القطاع العام “!؟ ذلك النظام الاقتصادي الذي تتهوس له (البكداشية) بشتى تجلياتها القومية والاشتراكية والذي تجري فيه استباح العمومية بشكل يتجاوز توحش الرأسمالية المعولمة الكاسرة لحدود وقيود الدولة الوطنية، حيث الاستباحة تبلغ حدا من التوحش الاقتصادي المحلي الذي لا يلتهم فضل القيمة فحسب، بل والقيمة ذاتها، لا يلتهم الاقتصاد فحسب، بل يلتهم المجتمع والسياسة والثقافة والقانون والقضاء والدولة، ويترك المجتمع قاعاً صفصفاً تحكمه عصابات مافيوية تطلق نارها على كل ما يتصل بالمجال العمومي الاجتماعي، وتضع جزمتها في فم كل محتج، إنها نوع من أبوية بطركية شمولية نادرة لم تعرفها الشموليات الأم في البلدان الأصل، حيث في النظم الشمولية الاشتراكية –سابقا- كان النظام الأبوي يخرس أبناءه عن الكلام، لكنه كان يكفل لهم الطعام على الأقل، يدمر عقل علوم الحياة والفلسفة والآداب والفنون، لكنه يترك للعقل التجريبي التقني أن يواصل مسيرته على الأقل (علوم الفضاء)، حتى يصطدم بسقف العقل النظري الذي لم يعد قادراً على تزويد العقل التقني بأية مغامرات معرفية ليجدد نفسه إذ يجدد الحياة ويتجدد بها.
إننا ومن موقع ماركسي تاريخاني انتظمنا في السلسلة الداعية إلى ضرورة الفضاء الليبرالي المعرفي كتمهيد تاريخي وضروري لخياراتنا الفكرية : القومية أو اليسارية أو الإسلامية، التي أسس لهاعبد الله العروي وواصل مسارها ياسين الحافظ، حيث وفق منظور هذه السلسلة لا يمكن أن تكون ماركسياً أو قوميا على قاعدة عقل القرون الوسطى، فلا بد للعقل العربي قبل أن ينتظم في تيارات فكر الحداثة المعاصرة، من أن يتحرر من العقل الوسطوي، ليكون يسارياً أو قومياً.
العقل الماركسي والعقل الإسلامي، استطاعا أن ينشقا على تاريخهما الشمولي من خلال استعادة الفضاءات الليبرالية الثقافية – وإن كان الأمر لا يزال نخبوياً – للانتظام بالنهج الديمقراطي، إلا الخط القومي العربي وبالتحديد (الناصري)، فقد عجز عن احداث هذه الانعطافة المعرفية، سيما بعد أن فقد قائده الألمعي (جمال الأتاسي)،إذ قد عجز عن تجاوز السطحية السياسوية الشعارية للديمقراطية باتجاه تملك وتمثل الميراث الليبرالي الكوني بوصفه فضاءها المعرفي، هذا البعد الكوني لليبرالية عوضنا عن عنصر الكونية في الماركسية كونها فكر عالمي بعد هزيمتها على يد الشمولية الاشتراكية (الشيوعية، أكثر مما كانت الهزيمة على يد الليبرالية، كما عوض هذا الفضاء الليبرالي الاسلاميين عن النزعة العالمية التي ينطوي عليها الإسلام الجهادي أوالتبشيري معا، مما أتاح لبعض النخب التنويرية التوفر على نزعة عالمية لإسلام مدني حضاري كما ينجزه الإسلام التركي اليوم، وبعض من نخب الإسلاميين العرب والسوريين الذين تعتقل المخابرات بعض طلائعهم في اعلان دمشق، وهذا ما يفسر أزمة الاتحاد الاشتراكي مع إعلان دمشق، وأزمة جزء من اليسار الذي نهض في بداياته كرد على شيخوخة (البكداشية)، لكنه انتهى ليكون مظهراً من مظاهر أزماتها من خلال تبني خطابها السياسوي الخارجي من جهة، وجزء منه اكتشف عمق حكمتها التاريخية البليغة فيريد اليوم محاورتها، من خلال محاورة النظام ومحاورة جبهته الوطنية التقدمية.
أزمة البكداشية كحزب وتجددها كدوغما قومية:
الغريب أن القوميين العرب جداً والشيوعيين الثوريين العماليين جداً، التقوا مع (البكداشية) التي يتشخص جوهرها اليوم ليس في شدة الامتثال للنموذج الستاليني فحسب، حيث النموذج القومي العربي تخطا النموذج الستاليني باتجاه إضافة المزيد من خصوصية الاستبداد الآسيوي والشرقي الذي يتلاقى مع الميراث الأوتوقراطي الروسي، حيث الستالينية تضمخ الشمولية السورية بنكهة (كيميل سونغية) ذات ظلال غيبية ولوثة ميتافيزيقية، تستعير من تراث الاستبداد العربي : فتوى سلطانية تتمثل في أن ولي الأمر لا يسأل يوم القيامة ولا يحاسب، ومنها اشتق المشرّع القومي العربي قاعدة أن الجلاد لا تطاله المساءلة القانونية إذا مات تحت سياطه الضحية وفق القوانين العرفية والاستثنائية السورية بل والعربية.
إن أجلى مظاهر (البكداشية) اليوم وهي تترأرأ بارزة على رايات القوميين العرب وفي خطابهم وشعاراتهم، تتمثل بالحفاظ على الأرث السوفيتي المتعلق بسياسة وزارة الخارجية السوفيتية، حيث مثلث البكداشية ذروة الإخلاص الأممي في تبني السياسة الخارجية السوفيتية المتمثلة بالحرب الباردة ضد الغرب الرأسمالي والقائمة على هزيمة الحلف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
انهزم السوفييت وكتلتهم الاشتراكية في حلف وارسو، وانهزم جناحا السوفييت اللذان يمثلا معها التحالف الثلاثي لما كان يسمى في أدبيات تلك الفترة بقوى الثورة العالمية الثلاث، أي انهزمت حركة التحرر الوطني العالمية والعربية، وأنهزمت الحركة العمالية الأوروبية ممثلة بأحزابها الشيوعية، لكن لم يبق إلا القوميون العرب وملالي إيران وحزب الله الذين لا يزالون يرفعون شعارات النصر، ويحدثونك يومياً عن هزائم الولايات المتحدة في كل أنحاء المعمورة، والطريف في الأمر أن القومويين العرب جدا -لشدة عروبتهم – ينسون أن ايران التي تقودهم إلى الهاوية، تحتل أراضي عربية هي أضعاف مساحة فلسطين، بل ولايخجلون من تسليم المناضلين العرب الأهواز في سبيل حقوقهم القومية العربية إلى المشانق الايرانية…!
لقد قررت روسيا الموطن الأول للاتحاد السوفيتي أن تتخلص من العبء السوفيتي للسياسة الخارجية، لكن التابعين (البكداشيين) بشتى نسخهم القوموية واليسارية الأصولية وملالي ايران وجهادي طالبان وفسطاطي ابن لادن، رفضوا التحرر من نير “السفيتة” وخيباتها في السياسة الدولية التي قادتها إلى الخراب.
العقلانية الغربية المنبثة في نسيج الثقافة الروسية أتاحت لها أن تتحرر من إيديولوجيا ثنائيات الفساطيط، فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان، ودولة الله ودولة الشيطان الأكبر، وأيديولوجيا تعريف الوطنية بوصفها ايديولوجيا انثنائية نحو الخارج تقوم على ثقافة الكراهية للآخر العالمي، وليست ايديولوجيا أن “لاحرية للوطن إلا بحرية الموطن” التي أطلقها فولتير منذ أكثر من قرنين ورفعها الاسلام المدني الدستوري التنويري على لسان محمد عبده منذ أكثر من قرن ، نقول : إن العقل الروسي الحداثي تمكن من التحرر من فهم السياسة الخارجية بمثابتها ايديولوجيا كراهية حربوية ضد الآخر، وذلك للانتقال إلى فهم العلاقات الخارجية بوصفها سياسات متحركة تتحكم بها المصالح المتحركة في الصراع الدولي، حيث توازن المصالح عالمياً يحل محل الصراع، وأن هذا التوازن يعكس توازن القوى فيه، إذ السياسة امتداد للاقتصاد، فقوة السياسة ليست قوة العناد والمناكدة والمصاولة والمصارعة والجمل الطنانة، والعبارات الصناجية، والشعارات الفتاكة، بل هي قوة الاقتصاد، وقوة الاقتصاد لا تأتي من الريع وبيع المواد الخام ومراكمة رأس المال على طريقة رأسمالية قارون كما يشرح لنا الشيخ القرضاوي حقيقة النظام الراسمالي… بل قوة الاقتصاد تكمن في التقنية، وذروة التقنية العليا اليوم تتمثل بالثورة المعلوماتية وثورة الاتصالات، حيث أخر مستجداتها القومية سوريا يتمثل بثورة شركة الطيران السورية، حيث الخصوصية الوطنية والقومية التقانية الحداثية السورية تقوم على وصول الركاب بطائرة ووصول حقائبهم في طائرة أخرى، بغض النظر عن وصول هذه الحقائب أم عدم وصولها، فالمهم أن يصل المواطن بالسلامة، ولا يقلق على حقائبه إذا كانت فارغة… فهي محمية في سوريا التي (الله حاميها)، بوصفها قلعة الصمود والتصدي ذاتيا، أي أن لها ربا يحميها…!
إذن روسيا تتحرر من ماضيها السلفي السوفييتي، بينما آليات العقل السلفي (البكداشي : اليساري والقومي)، لا تتمكن من الانفكاك من أسر النموذج السوفييتي، حيث يصر على الاستمرار بالتمسك بموروث السلف السوفيتي (الصالح) لكل زمان ومكان، سيما الموروث المتصل بالسياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي، وذلك لأن العقل المستقيل والتابع يعجز عن القراءة المستقلة للواقع، فيظل مذعناً لحقائق الآخر الروسي حتى ولو تمرد عليها الروس أنفسهم، ولذلك فإن أول من أطلق النار على الجيل الروسي الجديد –جيل البيريسترويكا- في العالم العربي، هو خالد بكداش عندما طالب موسكو بوقف إرسال أسبوعية (أخبار موسكو) باللغة العربية إلى سوريا والعالم العربي، حرصاً على عذراوية العقل العربي المستبد من أن يخترقه الغزو الثقافي لديمقراطية البيريسترويكا، وظل منشداً إلى بريجنقية محنطة تلوي عنق الواقع والمجتمع والحياة لصالح العقيدة التي ينبغي أن تبقى متلألئة مهما تخشبت شجرة الحياة، وبدا الواقع قاتماً وشاحباً وكئيباً.
إن أول انتصار على (البكداشية) واشتقاقاتها الفكرية والسياسية المتمثلة بالنزعة (الوطنية الظفروية) التي تتأسس على مدح (الأنا) وهجاء (الآخر) عبر البذخ البلاغي والفخفخة الإنشائية، حيث تستدعي هذه (الوطنية الظفروية) وعياً طفلياً رغبوياً نرجسياً للعالم،إذ يرى في (الذات) ملائكية تجسد عين الحكمة وموئل الصواب، وفي (الآخر) شيطانية مؤبلسة مذمومة مدحورة إلى يوم الدين. نقول : إن أول انتصار على هذه (البكداشية) يتمثل، بالشجاعة العقلية للاعتراف بهزيمة الايديولوجيا القومية والوطنية التقليدية المهزومة بذاتها بداهة، ما دامت مؤسسة على فهم للحرية الوطنية لاتقوم على حرية المواطن أولا وثانيا وثالثا… ، أي التأسيس لعقل نقدي قادر على إعادة الاعتبار للمشروع القومي بوصفه مشروعاً ديمقراطياً نهضوياً تنويرياً، أي مشروعاً ليبرالياً، لا أن ينسق الاتحاد الاشتراكي مع أحد الفروع العائلية للبكداشية التي يتهمنا بها، ومن ثم عقد لقاءات وندوات تحت مظلة الموافقات الأمنية التي تؤمنها البكداشية.
إن الليبرالية الفكرية والثقافية التي ندعو لها، هي عين الماركسية التاريخانية القادرة على إنتاج وعي مطابق بزمنها، أي مواجهة الليبرالية (المتوحشة) محلياً التي تحرق بلادها من أجل إشعال (سيجارها)، وعالمياً من خلال الاندراج بمواطنة عالمية مؤسسة على أممية جديدة تحكمها (قيم حقوق الإنسان) والاعتراف بالآخر القومي والاثني والديني والمذهبي في مواجهة البعد المتوحش في العولمة المستعدة لإحراق العالم في الحروب من أجل أرباحها.
أي أننا ومن موقع التاريخانية الماركسية، ندعو إلى مرحلة ليبرالية تستدعي منظومتها الحقوقية والقانونية التأسيس لدولة سيادة القانون الذي لامواطنة ولا وطن ولا دولة بدونه، ومن ثم التأسيس لاقتصاد منتج وتنمية فاعلة وعادلة في وجه طغم اللصقراطية المافيوزية والفساد المنظم والمقونن.
ومن هذا الموقع كنا قد دعونا إلى إخراج رياض سيف من السجن وتكليفه بتشكيل وزارة ليبرالية مؤقتة ومرحلية من أجل إعادة الحياة السياسية إلى المجتمع، والمجتمع إلى السياسة في ظل دولة القانون الحديثة، الأمر الذي فهمه يومها الأخوة الناصريون، بأننا تخلينا عن يساريتنا وتحولنا إلى اليمين البورجوازي وفق منظومات الفقه البكداشي، وعوتبت حينها من قبلهم، كيف أرشح السجين البورجوازي رياض سيف، ولا أرشح صديقي السجين اليساري، وزميلي في تأسيس لجان إحياء المجتمع المدني الدكتور عارف دليلة…!؟
لكن أنى للعقل الفقهي البكداشي حتى ولو كان ناصرياً، أن يفهم أنني أرشح ليبرالياً مستقلاً منتجاً في مواجهة اقتصاد النهب المافيوي، وأننا بحاجة إلى مرحلة ليبرالية نستعيد من خلالها الحياة السياسية، وأن المرحلة المعاصرة ما بعد نصف قرن من الشمولية لا تحتملنا نحن اليساريون والقوميون المتحدرون من هذا التاريخ الشمولي بل والصانعون له، حتى ولو رفعنا شعارات الديمقراطية، أي لا بد لنا من مرحلة ليبرالية انتقالية يتم فيها إعادة بناء ذاتية للعقل والفكر والسلوك نقديا وديموقراطياً.
هكذا يفهم الأخوة الناصريون علاقات السياسة وانحيازاتها على أساس شخصي حزبوي، وإلا ما دمت لم أرشح صديقي اليساري عارف دليلة فأنا ليبرالي متوحش مثل رياض سيف الذي لم يترك له المناضلون القوميون والاشتراكيون حائطاً يستند إليه في معركة الصمود والتصدي بعد أن نهبوه وحبسوه خمس سنوات.
الطريف في أمر (البكداشية المعتقدوية) المسفيتة التي توجه سياسات الاتحاد الاشتراكي وكل الرهط اليساروي والقوموي والجهادي، أن الطيبين منهم يقدمون خدمات إيديولوجية ساذجة ومغفلة لأشقائهم البعثيين، الذين دفعهم ويدفعهم حس بقائهم الغريزي في السلطة لنوع من البرغماتية، حيث يوظفون (الايديولوجيا للديمانموجيا) التي تضفي الشرعية القومية على المؤتمرات القومية، والقومية -الاسلامية، إذ يتقاسمون فيها خيرات الشعارات ومكاسب الجمل الثورية الفارغة ذات العيار الطنان الذي لا يتوقف دويه دون بلوغ قمة هضبة الجولان… حيث منذ ما بعد حرب تشرين 1973 رفع البعثيون شعار “لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة”، متساوقين ومتنافسين مع الساداتية في كسب ود الأميركان، لكن السادات تفوق بسبب التفوق الإقليمي لمصر على سوريا، حيث خروج مصر من صف المواجهة العربية – الإسرائيلية، لن يترك أمام إسرائيل سوى دوي الشعارات وقصف الخطابات وضجيج المؤتمرات. لكن البرغماتية البعثية، استطاعت أن تحصل على جائزة ترضية عن الجولان بمنحها لبنان، وقد كسبت (البكداشية) الجبهوية بعض الفتات، لكن البكداشية الناصرية – باستثناء ثالثهم المرفوع – لم يكسبوا سوى التربيت على كتفهم الوطني والقومي، بسبب ما يدعونه في ردهم علينا أنهم “من حرك الساكن في الساحة وأنهم من يحمل الجمر ويتقدم لساحة المواجهة… ولا يغلقون على أنفسهم أبواب غرفهم” كما نفعل نحن.
هذه النزعة الظفروية الطفلية تكشفها حقيقة أن ليس السوريين فحسب، بل وكل المتابعين عربيا وعالمياً للشأن السوري يعرفون أن المبادرين لتحريك الساكن في الساحة السورية هم المثقفون المستقلون وليس الاتحاد الاشتراكي…. وليس هناك من حمل الجمر منهم في هذا الزمن الراهني على الأقل، ودليل ذلك أنه ليس للاتحاد بين ضحايا ربيع دمشق، وإعلان بيروت –دمشق، ومجلس إعلان دمشق أي ضحية حامل للجمر!!
أما أن أغلق على نفسي أبواب غرفتي، فهم يعرفون أن ذلك ليس سكوتا ولا صمتا،إذ أنني من وراء نافذتي أكتب هاجيا وساخراً – مع كل الديموقراطيين في العالم – من القياصرة الجدد والطغاة المؤبدين…
مع ذلك فالأخوة في الاتحاد يعرفون أن ليس ثمة ساحة لم أغشها أو لم تردها ابلي… بدءاً من ساحة سعد الله الجابري في حلب، مروراً بتأسيس لجان إحياء المجتمع المدني وصولاً إلى إعلان دمشق الذي لم أجمد أو أسحب عضويتي منه….
لكنني قررت العودة إلى غرفتي عندما كثر الزاحفون إلى الواجهة والوجاهة والعراضات والاستعراض.
أي أنني كنت دائما أتمثل حكمة والدي الدائمة التي يقتبسها من عنترة : أنني أغش الوغى وأعف عند المغنم، هذا كل ما جنيته في حياتي-قبل الليبرالية المتوحشة وبعدها- و هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد…
* حلب
الثلاثاء 22 كانون الثاني (يناير) 2008