قضية فلسطين

أيّة إسرائيل في عصر تصفية الإمبراطورية والشرق أوسطية؟

مطاع صفدي
وقع أخيراً الاختيار الأمريكي الاسرائيلي في تحقيق الجولة الجديدة للحرب الاستباقية على غزة، بعد حيرة طويلة وشاقة في البحث عن سبيل موثوق النتائج لممارسة هذه الحرب ضد إيران أو حزب الله ولبنان. فهل كانت غزة هي الأضعف من بين هذه الأهداف الثلاثة، من حيث وسائلها الدفاعية، وموقعها الجيواستراتيجي المعزول تقريباً؛ لعل الفكرة المرجحة لهذا الاختيار قد اعتمدت على التحليل الذي يزعم أن تصفية خط الممانعة إقليمياً إنما تبدأ من تبديد مرتكزها الأيديولوجي المتمحور حول المقاومة المنحدرة أصلاً عن نموذجها الفلسطيني. فالرأسمال الأيديولوجي المغذي لخط الممانعة، على مستوى الدول، والرأي العام العربي الغالب، كان ولا يزال يستمد شرعيته القومية والإنسانية من إنجازات المقاومة في ساحات الصراع الأساسية المفتوحة ضد أكبر موجة استعمار متمادٍ، وعائد بأعلى جهوزية تدميرية، لاحتلال أوطان العرب والاسلام وإحباط استقلالاتها السياسية، ونهضاتها الحداثية المتجددة.
فلا تزال المقاومة الفلسطينية هي أم المقاومات العربية الناشئة بعدها، وبمصاحبتها، وهي خط الدفاع الأول ضداً على كل نصر حاسم ونهائي يسعى إليه العدو بأعظم إمكانياته الإبادية. فإن بقاءها واستمرار شعلتها لا يحمي بقية فلسطين المسروقة صهيونياً فحسب، بل يوفر الثقة والوعد باسترداد الوطن السليب من مغتصبيه يوماً آتياً لا محالة. من هنا يجيء المبدأ القائل، من جملة المبادئ المؤسسة لنهضات الأمم الحية، بأن المقاومة تمنع الهزيمة الكاملة عن أمتها، بعد اندحار جيوشها أو حرمانها من القوى النظامية، كما أنها تجعل من أي انتصار للعدو إنجازاً منقوصاً، ومعطوباً، مزروعاً بعلة استباقية لاندحاره المستقبلي. فالمقاومة الفلسطينية لم تربح بعد استعادة وطنها، بيد أنها لم تسمح لغاصبيه أن يعيشوا فيه كمواطنين آمنين.
هذا المبدأ النهضوي لم يبق امتيازاً فلسطينياً فقط، صار رَحِماً مبدعة لمقاومة لبنان التي تسلمت الراية من الثورة الفلسطينية النازحة من بيروت ثم العائدة إلى فلسطين لتفجر الانتفاضة الأولى، فتغدو هي الثورة الفلسطينية من داخل وطنها هذه المرة. وأما مقاومة لبنان الوليدة فقد انخرطت طيلة العقدين الأخيرين من القرن الماضي في تطهير ثلث لبنان المحتل من قبل إسرائيل. ثم جاء دور المقاومة العراقية كذروة ثالثة لهذا المبدأ النهضوي في التشبث بحق الحرية كمعادل أخير لحق وجود الشعب واستمرارية إنسانيته. فالمقاومة هي الوجه السلبي لكل نهضة تاريخية قابلة للحياة.
وإذا كان هذا الوجه السلبي قد طغى على تاريخانية النهضة العربية، فذلك يدل على عظم تجارب الأهوال العالمية الهادفة دائماً إلى استئصال جذورها، وليس إلى مكافحة بعض أعراضها السياسية فحسب.
للتذكير، ولمن يتجاهل الدلالات الحقيقية لصراعات النهضة مع أعدائها الدوليين وحلفائهم المحليين، نقول انه ليس ثمة جولة من مسلسل هذا الصراع، مع قطبَيْ الاستعمار الاستئصالي المعاصر، أمريكا والصهيونية، إلا وكان كل عدوان محملاً بأقصى استطاعة تدمير وإبادة كلية، لآلة القتل، ويديرها كل مرة ذلك التصميم البربري القديم، في إنزال القضاء المبرم على الآخر، العربي والمسلم والشرقي، لجريرة كونه العائق المحبِط لعنعنات الشره الحيواني، المقنعة وراء غطرسة القوة القاهرة وحدها. فكلُّ واقعةِ صدامِِ يبتدعها المتغطرس الجشع، هي حلقة من مسلسلِِ في ممارسة (التفوق) بفنون الحرب الإبادية للآخر، والمميزة لنوعية الاستعمار الاستئصالي. فالأمركة/الصهينة لا تكف عن ضرب أمثلة التفوق بالضربة القاضية. لا يضيرها أبداً أنها أبطلت تاريخ الحروب بين الجيوش، لتحل مكانه حروب الجيش الأوحد الأقوى ضد الشعوب المستضعفة.
يفتخر قادة إسرائيل أنهم أسقطوا حمولة مئة طن من قنابل التدمير الشامل، وخلال عشر دقائق فحسب، على مدينة غزة، على معالم مجتمعها المدني. وبأنها قتلت مئتين وأربعين إنساناً من رموزه.
ولا تزال تقتل البشر والحجر كيفما كان، بعد أن نفذ (بنك) المراكز الرسمية والمقرات الحزبية والأمنية، وبيوت القادة وجيرانهم. إنها الحرب الرابعة أو الخامسة، من نوع الإبادة الشاملة، التي يشنها الاستعمار الاستئصالي خلال أقل من عقدين. وكان مسرحها المركزي هو المشرق العربي، ابتداء من بغداد (1991 ، 2003).
وكانت أمريكا هي المخططة والغازية، ومعها حلفاؤها وأتباعها المحليون من بعض عرب الأنظمة، ومعهاالصهيونية طبعاً، ظاهرة أو متخفية. وكان منهجها المفضل هو الهجوم الجوي الصاعق والمدمر للبشر والحجر، للحضارة ومجتمعها المدني، وضحاياها من الألوف المؤلفة، مقاتلين ومدنيين؛ ثم وقعت حرب تموز (2006)، بالآلة القتالية الإسرائيلية المباشرة ضد لبنان وشعبه الجنوبي، البنية التحتية لمواصلات البلد ككل، إلى جانب التقويض الممنهج لمئات القرى والبلدات في خارطة جنوبه عامة.
الأمركة والصهيونية ليستا حليفتين فحسب، بل متكاملتين، تتبادلان كل خبرات التنكيل بعدوهما المشترك.ألاّ تمتلكان معاً أعظم وأبشع آلات الحروب الاستئصالية في التاريخ. لكنهما متعاميتان كذلك عن النتائج والعواقب لليوم التالي على كل مجزرة أو غزوة طائشة. وتلك هي نقطة الضعف الأنطولوجية لكل فلسفة في القوة المتغطرسة. فهي الكفيلة باشتقاق الخنجر المصنوع من أسلحتها بالذات، والمرتد حتماً إلى صدرها. ويقول لنا علم النفس الاجرامي أن القتلة المحترفين انما يصنعون بأيديهم القذرة كل الأسباب والموجبات الآيلة إلى قتلهم في نهاية العنف الأعمى. لكن الصهاينة الذين أدمنوا احتراف المجازر الجماعية كوسيلة وحيدة لاغتصاب الوطن الفلسطيني،لا يعترفون بأنهم دخلوا مرحلة التصفية لمنهجهم، بإرادتهم، فهم الذين ينصبون أفخاخ الهزيمة لجيوشهم. لا يمكنهم أن يتعظوا بتجاربهم المريرة مع المقاومة اللبنانية. فيكررون سيناريو التورط الغبي عينه. كأنهم يسعون إلى إعادة ارتكاب أسباب إحباط الحرب التموزية، كبرهان جديد على انتهاء المشروع الاسرائيلي، من حيث اعتماده مبدأ القضاء المبرم على عدوه، وإلا فأنه هو المقضي عليه. وذلك بحسب الحكمة الفلسفية القائلة بأن الضحية التي يعجز جلادها عن إزالتها كلياً سترتد عليه، تستلبه دوره ليصير هو جلاد نفسه أخيراً.
لم تستطع إسرائيل طيلة ستين عاماً من وجودها الاغتصابي أن تتطور إلى أكثر مما كانت عليه في أساس تخطيط مشروعها وتكوينه كمغامرة سياسية كبرى، استمدت مشروعيتها من توافقات دولية، في لحظة التمهيد لانقسام عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى ثنائية الاشتراكية والرأسمالية، وانطلاق الحرب الباردة، مع تعاظم محورية السياسة الدولية حول الحاجة الحيوية المتزايدة للنفط العربي وضرورة احتكار جغرافيته من قبل إحدى هاتين الكتلتين.
هذه المحورية تضاعفت سلطتها المحركة لتوجهات النظام العالمي الجديد الوارث لتركة الحرب الباردة، واستئناف الصراع حول احتكار التملك منها. وقد بدا لأمريكا أنهُ يمكنها أن تمارس وحدها حق التصرف بهذه التركة. فكان اختراع الوهم الامبراطوري الذي أطلق تمارينه عالمياً، وشرق أوسطياً بخاصة، طيلة العقدين المنصرمين.
وبالطبع حاولت إسرائيل تأصيل وجودها طيلة هذه الحقبة الخاصة بالتحولات الدولية والاقليمية، الساعية كلها إلى إقامة صيغ من التوازنات الجيو سياسية، ظلت رجراجة ومتماوجة تحت وطأة القفزات الاقتصادية الكبرى، المصاحبة للثورات المعرفية، في مجال تقنيات الاتصال وما أحدثته من متغيرات هائلة في طبيعة النسيج الاجتماعي لعلاقات الحضارات فيما بينها. فكان ثمة كوكب أرضي جديد حقاً منخرط في تأسيس نظام عالميةٍ قادمةٍ أخرى، مختلف تماماً عن مفهوم وطبيعة كل ما يعرف عادة تحت مصطلح النظام العالمي للسياسة الدولية، ومناقض كلياً في أسس ثقافته ومشروعيته الإنسانية لذلك المصطلح الآخر، الذي يتم تسويقه تحت اسم العولمة؛ وهو المصطلح المزيف لمضمون العالمية، والهادف إلى قطع الطريق أمامها نحو إنتاج نظامها السياسي الكوسمو البوليتكي لما بعد تاريخ الإمبراطوريات ومهالكها البربرية الآفلة راهنياً مع آخر تمرين أمبراطوري متهافت، لكنه مزدحم وجامع لأقصى شرورها، وكان عنوانه الألفية الثالثة الأمريكية.
اسرائيل هي الثمرة العجفاء الأخيرة المتساقطة من شجرة الإمبراطورية الآفلة، وهي من المقرر لها أن تزدهر بازدهارها وأن تذبل مع خريفها. لكن معارك التصفية ربما كانت أشد شراسة وضراوة من صراعات البدايات.. فالخصم العربي الذي كان ضعيفاً في دفاعاته المادية، وفي استيعابه لحقوق بقائه وحريته، قليل العدة والعتاد في مقارعته للغزاة وغدرهم، ومؤازرة أقوى قوى العالم، هذا العربي الفلسطيني تعلم دروس هزائم الستين عاماً المنصرمة، بالأصالة عن نفسه، وبالنيابة عن هزائم أمته معه تارة، ووراءه تارة أخرى، وبعيدة عنه في المرحلة الراهنة على الأقل بالنسبة لمجمل أنظمتها السياسية الغارقة في وحول أصحابها. فهي أنظمة آفلة كذلك كذيولِِ تافهة للإمبراطورية المنسحبة مع فضائحها في السياسة والحرب والاقتصاد؛ فالحليف الموضوعي لهذهِِ الأنظمة هي إسرائيل في نهاية الشوط؛ وذلك يحدث تحت طائلة الضرورة القصوى لتبادل مصلحة البقاء المشترك لكليهما.
خارطة الصراع الوجودي (الشرق أوسطية) لم تتضح معالم خطوطها الحدية فيما مضى كما هي اليوم؛ فهي الخارطة التي آن لها أن تواجه حالة الاهتراء الكامل لكياناتها المصطنعة، حتى يمكن لها أن تتمزق أوصالها يوماً بعد يوم، لتعود إلى انكشاف خارطة العالم العربي، تحتها، كوطن واحد متكامل لأمته التاريخية الحية من الأزل إلى الأبد، وضدا على الكيانات الأغراب الغازية لأرضها وحقيقتها. فإسرائيل وهذه الأنظمة سوف تجمعهما معاً سلة مهملات التاريخ. لكن معارك التصفية لاتزال تتصاعد نحو أوجها، ورحلة الخاتمة هي الأصعب دائماً لأنها ستأتي بالنهاية وبالبداية لما بعدها.

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى