صفحات سورية

مؤتمر دمشق والسجناء

null
الياس خوري
تذكرتُ مقولة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد: “شعب واحد في دولتين”، وانا اتابع وقائع مؤتمر العلاقات اللبنانية – السورية، الذي افتتحته، في الاسبوع الماضي، نائبة الرئيس السوري نجاح العطار في دمشق. المقولة لا تصحّ فقط على لبنان وسوريا، لكنها تصح على جميع دول المشرق العربي ايضا. ألم تكن سوريا خلال اعوام الوحدة 1958 – 1961، اقليما شماليا للجمهورية العربية المتحدة، التي جمعتها مع الاقليم الجنوبي مصر في دولة واحدة؟
واذا كان انهيار تلك الوحدة نذير شؤم على الحركة الوطنية العربية كلها، فإن دروس تلك الوحدة لم تُقرأ في شكل عقلاني، والدليل على ذلك هو الاداء الوحدوي الصدّامي الذي قاد الى كارثة الكويت، والاداء الوحدوي السوري في لبنان الذي قاد الى كارثة العلاقات اللبنانية – السورية.
والواقع، ان ازمة العلاقات، الناجمة عن الهيمنة المخابراتية السورية بكل فظاظتها، كانت تؤرق عددا كبيرا من مثقفي البلدين، وقد سبق ان جمعتنا لقاءات متعددة نتج منها اقتراح من المسرحي السوري سعدالله ونوس بضرورة عقد لقاء علني بين مثقفي لبنان وسوريا، من اجل اصدار اعلان مشترك، يدعو الى تصويب تلك العلاقات. لكن وفاة ونوس، ثم التطورات المتسارعة التي اعقبت بدايات ربيع دمشق، جعلت المهمة المشتركة للمثقفين تتركز في دعم نضال ربيع دمشق، الذي كان للأسف ربيعا قصيرا.
خلال انتفاضة الاستقلال، وما شابها من كلام وممارسات عنصرية، عمل المثقفون على محاولة تصويب الخطأ، كي لا يتحول خطيئة، وهنا يجب التنويه بمساهمات الشهيد سمير قصير والزميل محمد علي الاتاسي، في التصدي للغة عنصرية تستعيد الخطاب الفاشي الكريه الذي صنعته الحرب الأهلية.
غير ان الأمور لم تقف عند هذا الحد، ففي السادس من نيسان 2006، اصدرت مجموعة من المثقفين السوريين واللبنانيين بيانا تحت اسم “اعلان بيروت – دمشق، اعلان دمشق – بيروت”، وقّعته مروحة كبيرة من مثقفي البلدين، وتضمن دعوة جريئة وعقلانية الى تصويب العلاقات بين البلدين. تعالت لهجة الاعلان المعتدلة على التوتر الاعلامي الذي كان سائدا في تلك المرحلة، بل وتعالت على الجراح، كي تنظر الى العلاقات بين البلدين الشقيقين بروحية عالية من المسؤولية.
غير ان رد فعل النظام السوري على الاعلان كان سريعاً، ويتصف بالقمعية التي يبررها قانون الطوارئ الذي علّق الحقوق السياسية في سوريا منذ عقود. ميشال كيلو، المثقف والمناضل الديموقراطي السوري، الذي لعب دورا كبيرا في صوغ المقترب العقلاني للاعلان، تعرض للاعتقال، ولا يزال الى اليوم نزيل السجون السورية. كما تعرضت مجموعة من المثقفين والموقّعين للملاحقة والمساءلة.
هنا يحق لنا ان نوجّه بعض الاسئلة.
سؤالي الأول يتعلق بالمثقفين اللبنانيين الذين وقّعوا الاعلان، ثم، وبعد ذلك بثلاثة اعوام وجدناهم يشاركون في المؤتمر الدمشقي المخصص للعلاقات بين البلدين. هل يعقل ان يشارك موقّعون لبنانيون لإعلان 2006، في مؤتمر يعقد في مدينة دمشق، حيث يقبع بعض اصدقائهم السوريين في السجون، بسبب توقيعهم الاعلان نفسه؟ ألم يخطر في بال اصدقائنا اللبنانيين ان اول واجباتهم قبل الاشتراك في مؤتمر رسمي، نظمته السلطة السورية على اعلى المستويات، هو المطالبة بإطلاق سراح ميشال كيلو كشرط لهذه المشاركة، اذا كان لا بد منها؟
السؤال الثاني، ويرتبط بالطبيعة الرسمية للمؤتمر الدمشقي، وهي طبيعة تطرح ظلالا على المشاركين اللبنانيين جميعا. فالمؤتمر الرسمي لم يعقد برعاية لبنانية – سورية مشتركة، كي يسمح السياسيون اللبنانيون لأنفسهم بالمشاركة فيه، مما يعيد الى الذاكرة زمن الوصاية حتى وإن بقفازات من الكلام الهادئ والنقدي. العتب ليس على بعض رموز زمن الوصاية، بل العتب على سياسيين مستقلين وجدوا انفسهم، بسبب ضمور دورهم، يلعبون دور الغطاء السياسي للمؤتمر.
السؤال الثالث موجه الى المثقفين اللبنانيين المستقلين، وهو استكمال للسؤال الأول حول المشاركة في مؤتمر رسمي، بينما يعيش زملاؤهم المثقفون السوريون في ضائقة القمع والسجن والمنع من السفر. السؤال هو: هل يحق للمثقف تقديم الغطاء للسلطة؟ ام ان الدرس الكبير الذي قدّمه ادوارد سعيد في كتابه، “صور المثقف”، يمكن تجاهله او تناسيه، في زمن استعادة انظمة الاستبداد “شرعيتها” الدولية؟
اسئلة بسيطة ومباشرة، لكن الاجابة عنها سوف ترسم ملامح الثقافة اللبنانية بعد الاعلان شبه الرسمي لهزيمة المشروع الاستقلالي الديموقراطي. ففي زمن الهزيمة الصعب، وفي صحراء السياسة اللبنانية التي صارت من جديد مطية الطوائف واسيادها الاقليميين، تبرز الحاجة الى مثقفين نقديين ومستقلين، يدافعون عن شرف الكلمة ويقاتلون في سبيل استقلالية الثقافة وحريتها، ورفضها التحوّل غطاء للقمع وتحطيم المعاني.
تابعتُ وقائع المؤتمر الدمشقي بذهول وحزن. المسألة لا تتعلق باستقلال لبنان فقط، فالاستقلال كما فهمناه ليس انعزالا عن قضايا المنطقة العربية، بل على العكس من ذلك تماما، انه انخراط نقدي واستعادة للغة النهضة العربية، التي كانت بيروت احد منابرها، وكان المثقفون اللبنانيون في لبنان ومهاجرهم المصرية والاميركية دعاة لحرية العرب واستقلالهم. المسألة ترتبط بالدلالة الرمزية للمؤتمر الدمشقي. قد نقول ان نتائج المؤتمر لن تغيّر شيئا، وانه ليس سوى حدث عرضي في مسيرة معقّدة اسمها العلاقات بين البلدين، غير أن رمزية التحاق المثقفين بالسلطة تثير الأسى.
هل نستطيع ان نكون مثقفين احرارا في بيروت، بينما يقضي خيرة المثقفين السوريين اعوامهم في السجون؟
هل يستطيع المثقفون اللبنانيون الذين شاركوا في المؤتمر الادعاء بأنهم يدافعون عن حرية الثقافة في وطنهم الصغير، حين لا يدافعون عن حرية شركائهم في “اعلان بيروت – دمشق، اعلان دمشق – بيروت”؟
اسئلة يبدأ الجواب عنها عندما نقول لميشال كيلو ورفاقه السجناء، ان معركة الحرية في بلاد العرب واحدة ولا تتجزأ، وان حريتهم من حريتنا، لأن ما يجمعنا بهم اساسا هو نضالنا المشترك من اجل الحرية.
ملحق النهار الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى