عشرون ‘القدس العربي’
صبحي حديدي
قبل أيام بلغت صحيفة ‘القدس العربي’ سنّ العشرين، فتذكّرت أنّ عمري المهني الشخصي فيها دخل الـ 19 سنة، إذْ نُشر أوّل مقال لي فيها بتاريخ 6 نيسان (أبريل) من العام 1990. كان تعليقاً سياسياً قصيراً بعنوان ‘عشيّة البيريسترويكا الثانية’، كتبته تلبية لطلب الصــــديق القاصّ والصحافي السوري الراحل جميل حتمل (1956 ـ 1994)، مراســـل الصحــيفة في باريس آنذاك، الذي يطيب لي أن أحيّي ذكــــــراه. كانــــت ‘القدس العربي’ ممنوعة من التوزيع في الأراضي الفرنسية، بسبب موقفها من حرب الخليج الثانية كما قيل رسمياً للراحل حتمل، وكان المنع في ذاته سبباً كافياً، بل دافعاً، كي أتحمّس للكتابة في الصحيفة.
غير أنّ السؤال التالي ظلّ يلحّ علينا: كيف، ولماذا، تضطر فرنسا العظمى، بلد فولتير والأنوار وحقوق الإنسان وكومونة باريس، إلى منع صحيفة بسبب اتجاهاتها السياسية؟ البلد كان منخرطاً عسكرياً في ‘عاصفة الصحراء’، أي أنه في حالة حرب، وبالتالي لا يجوز لصحيفة أن تكون ضدّ تلك الحرب، وتوزّع على الأراضي الفرنسية… أو هكذا قبلنا الأمر، الراحل حتمل وكاتب هذه السطور، نحن اللذَين عشنا ربع قرن على الأقلّ في كنف استبداد النظام السوري والأحكام العرفية. وكنّا، من جانب آخر، نعرف أنّ شارل باسكوا، وزير الداخلية آنذاك، هو أحد عتاة اليمين الحاكم وبين الأكثر تشدّداً في مسائل الأمن والهجرة وحقوق الأجانب، وكان يخوض معركة شرسة في مكافحة أعمال الإرهاب التي ضربت فرنسا أواسط الثمانينيات.
لكنّ الصديق الكاتب والصحافي ماجد نعمة، رئيس تحرير شهرية Afrique-Asie الفرنسية، السوري مثلنا، ولكن المخضرم في فرنسا قبلنا، والقادم من لبنان حيث للصحافة الحرّة حرمة من نوع مختلف، كان له رأي آخر. وهكذا تقدّمنا بشكوى إلى منظمة ‘مراسلون بلا حدود’، وكانت حينذاك حديثة العهد وأكثر استعداداً لخوض المعارك من أجل ضمان الحرّيات الصحفية، فكلّفت أحد مندوبيها أن يرافقنا إلى مؤسسة توزيع الصحف والمطبوعات، للسؤال عن حقيقة المنع. مفاجأتنا الكبرى، والسعيدة بالطبع، كانت إقرار قسم توزيع الصحف البريطانية بأنه لا يوجد قرار رسمي خطّي، بل هي تعليمات شفهية فقط! وحين ضغط زميلنا الفرنسي لمعرفة مصدر تلك التعليمات، ولمح إلى احتمال تقديم شكوى رسمية إلى الوزير باسكوا نفسه، تلعثم المسؤول عن القسم، وأقرّ بعدم وجود أيّ مبرر قانوني يحول دون التوزيع.
كان واضحاً، مع ذلك، أنهم ليسوا سعداء بهذا التنازل القسري، فأعلنوا أنّ الصحيفة جديدة وغير معروفة في فرنسا، ولهذا لن يقبلوا توزيع كمية تتجاوز 50 نسخة، حتى تتضح مواقف السوق من المطبوعة، الأمر الذي اعتبرته شخصياً بمثابة إهانة. لكنّ الصديق عبد الباري عطوان، رئيس التحرير الذي كان يدرك طبيعة رهانات الصحيفة حاضراً ومستقبلاً، قال ضاحكاً إنه يوافق على الكمية، لأنّ الموزّع الفرنسي نفسه سوف يضطرّ إلى طلب زيادتها، أضعافاً مضاعفة. وهذا ما جرى بالفعل، خلال زمن قصير، وأكثر ممّا كان عطوان نفسه قد توقّع.
وسيرة التوزيع تقودني إلى استعادة حكاية أخرى جرت بعد أقلّ من عشر سنوات على إدخال ‘القدس العربي’ إلى فرنسا، ولم تقع في باريس أو في لندن، بل في مدينة كافالا اليونانية، مسقط رأس محمد علي باشا، على التخوم الشمالية الشرقية من اليونان، غير بعيد عن الحدود البلغارية ـ اليوغوسلافية ـ الألبانية، حيث كنت أشارك في ‘منتدى الشعر المتوسطي’. كانت كافالا هذه بعيدة عن أثينا العاصمة، وسكانها الخمسون ألفاً يتألفون من اليونان الأقحاح، ويندر أن تجد فيها غريباً مقيماً، وزوّارها الأجانب هم السيّاح حصراً، وبعض الضيوف القادمين للمشاركة في نشاط عابر، ثقافي أو تجاري. وبذلك كانت معضلتي الأولى هي البحث عن صحيفة باللغة الإنكليزية أو الفرنسية، تتيح لي متابعة ما يجري في الكون من أحداث.
كان دليلنا في المدينة هو الدبلوماسي الفلسطيني الشاب عصمت صبري، الذي حضر من أثينا لتقديم ضيافة فلسطينية خاصة إلى ممثلي الشعر العربي، ولأنه كذلك كان من الروّاد المؤسسين للمنتدى، سألته أن يرافقني إلى كشك لبيع الصحف الأجنبية. وبالفعل، تناولت نسخة من صحيفة ‘هيرالد تريبيون’، التي تصدر طبعة إنكليزية مشتركة في اليونان، وكنت أتوجه إلى البائع حين رأيت عصمت يلوّح بيده، حاملاً نسخة من… ‘القدس العربي’! هنا؟ لماذا؟ ومَن الذي يقرأ ‘القدس العربي’ في هذا المرفأ الوادع الخالي تماماً من الأغراب، ومن العرب تحديداً؟ ولقد تبيّن أنّ القرّاء هؤلاء هم نفر من البحّارة العرب، الذين ترسو بواخرهم في مرفأ البلدة بين حين وآخر، وأنّهم أوصوا البائع على هذه الصحيفة تحديداً، والنسخ محجوزة لهم!
ولقد تنبّهت، بأسى بالغ، إلى أنّ ‘القدّس العربي’ ممنوعة في سورية، وهكذا تظلّ حالها اليوم أيضاً، مع فارق أنها حُجبت حتى على شبكة الإنترنت. لكنني اغتنمــــت بهجـــة تلك اللحـــــظة، كما أفعل الآن في مناسبة الشمعة العشرين، مؤمنـــــاً أنّ دوام الحــــال في بلدي من المحال، وأنّ الزمن الذي جعل ‘القدس العربي’ تصل إلى أقصى أقاصي اليونان، كفيل بإيصالها إلى دمشق وحلب وحمص واللاذقية والقامشلي… ذات يوم قريب، كما أرجو.
خاص – صفحات سورية –