صفحات مختارة

مشاركة المجتمع المدني والتنمية في العالم العربي

سليمان تقي الدين
يرتبط نشوء المجتمع المدني تاريخياً بالحداثة في المستويين الاقتصادي والاجتماعي وفي المستوى السياسي.
أول ما بدأ الحديث عن مجتمع مدني كان مع نشوء البرجوازية الصناعية التي فرضت نمطاً من العلاقات الاجتماعية محررّة من القيود الشخصانية التي تميّز النظام الاقطاعي. المجتمع المدني في هذا التصور هو مجتمع الإنتاج والعلاقات غير العاطفية وغير الإيديولوجية.
المجتمع المدني هو مجتمع الفرد الطبيعي لذا هو القاعدة المادية لفكرة المواطنة وبالتالي الديمقراطية.
طبعاً ليس هناك من مفهوم يبقى على صورته الأولية. لقد طور الفكر الغربي المسائل المتعلقة بالمجتمع المدني وكذلك مفهوم الدولة والديمقراطية. مثلاً في المفهوم الهيغلي هناك دائرة المجتمع الاقتصادي الاجتماعي وهناك دائرة الدولة. في الفكر الهيغلي الدولة هي القضية الأساس صانعة العقل والحرية والمعنى.
في المفهوم الماركسي كل شيء ينبع من المجتمع ومن علاقات الإنتاج. أما غرامشي فهو أبرز منظّر حديث لفكرة المجتمع المدني. تقوم فكرة غرامشي على استقرار الدولة الديمقراطية الحديثة وعلى الحاجة لتسليط ضغوط المجتمع المدني عليها لتطوير دورها وموقعها بالنسبة للمصالح الاجتماعية المتباينة. هذا المفهوم عملياً ارتبط مع تطور فكرة التغيير السلمي البرلماني للسلطة واستبعاد مسألة الثورة العنيفة.
على هذا المستوى كان فكر غرامشي تنبوئياً. فقد تطور الفكر السياسي حول الدولة في اتجاه اعتبارها معطى نهائياً، وأن المجتمع عليه أن يكون فاعلاً لتطوير وظائف الدولة لمصلحة التقدم الإنساني. من هنا استخلص غرامشي مفهوم الكتلة التاريخية التي هي شيء مختلف عن نظرية صراع الطبقات الاجتماعية.
في المجتمع العربي الإسلامي هناك تشكيلات اقتصادية اجتماعية غير متبلورة أو غير صافية وتخترقها العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالإيديولوجيا وبالثقافة الإسلامية المتعلقة بالتضامن. نظام التضامن الاجتماعي يتدخل فعلياً في الفرز الاجتماعي. نحن هنا أمام اشكاليتين. الأولى هي التشكيلة الاجتماعية المركبة والثانية هي التوسط الإيديولوجي في العلاقات الاجتماعية.
هذه الإشكالية هي التي يجري الحديث عنها أحياناً بصفتها “ثقافة إسلامية” لا تتسق تماماً مع فكرة المجتمع الحديث الذي يقوم على فكرة “المواطن” أو الفرد الطبيعي المجرد. وتنعكس هذه الأمور على طبيعة المجتمع المدني. لذا نجد دائماً الحديث عن بنية اجتماعية حديثة هي مؤسسات المجتمع المدني وبنية تقليدية هي المجتمع الأهلي وبنية فوقية هي الدولة العربية، وهي على مستويات مختلفة من الحداثة والتقليد. ولعل أهم ما يميّز الدولة العربية هو انفصالها عن بنية المجتمع والاستواء فوقه.
لقد صار مؤكداً اليوم أن الدولة المعاصرة باتت كياناً ثابتاً ومستقراً وأن عملية التغيير الاجتماعي والسياسي في سبيل التقدم تتم بواسطة الضغوط المتواصلة التي يقوم بها المجتمع المدني من أجل تجسيد حقوق الإنسان التي هي المضمون الأساسي للفكر التقدمي في هذا العصر.
حققت الدول المتقدمة (اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً) مستويات عالية من الاندماج الاجتماعي والوطني (الإقليمي)، فتراجعت فيها حدة الصراعات السياسية والإيديولوجية لصالح التنافس على ما تعتبره الرفاه الإنساني. ففي غالبية هذه المجتمعات حُلّت مشكلة القوميات والإثنيات وصارت المواطنة المجرّدة هي البنية الأساسية للدولة والإطار الدستوري هو المنظم الأساسي للاجتماع السياسي. أما الدول النامية، التي من بينها دول منطقة الشرق الأوسط، فهي ما زالت ضعيفة من ناحية بنيتها الدستورية ونمو المجتمع المدني فيها. إن قسماً مهماً من هذه الدول ليس لديه دساتير أصلاً ولا يتم إنتاج السلطة فيه من خلال الانتخابات العامة. والقسم الآخر من الدول لديه دساتير تضع قيوداً على المشاركة الديمقراطية سواء على مستوى انتخاب السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية. ثم هناك إشكالية القوى السياسية نفسها، أي الأحزاب التي هي مكون أساسي للعملية الديمقراطية. فهي إما أحزاب سلطة أو هي أحزاب عقائدية (بصورة أساسية إسلامية)، فهي لا تمارس الحياة الديمقراطية داخلها ولا تعتمد وسائل النشاط الذي يميّز الأحزاب الديمقراطية، أو هي تجمعات شخصية وأحياناً إثنية أو مذهبية. وهي أما تخضع لرقابة الدولة أو هي أحزاب محظورة قانوناً ولكنها تمارس دوراً واقعياً.
مع الثورة العلمية والمعلوماتية والعولمة وسقوط الحواجز السياسية والإيديولوجية وانتشار الفضائيات والإنترنت نحن أمام مرحلة جديدة من التحولات في المجتمعات العربية. لقد بدأ مطلب الإصلاح السياسي يتوسع أفقياً وعمودياً، فالحّكام يتبنوّن بعض المبادرات والجمهور يطالب بالمزيد من الإجراءات على هذا الصعيد. لقد انعقدت عدّة مؤتمرات طرحت برامج للإصلاح في هيكليات الدول العربية ونشأت مراكز أبحاث مهمة في جميع الدول تقريباً وهي تقدم مساهمات مهمة لتطوير الأوضاع. والقضايا الاقتصادية والمالية العالمية تضغط بقوة في سبيل تطوير الأطر القانونية للنمو والتنمية، وتلعب مؤسسات الأمم المتحدة والقانون الدولي وثقافة حقوق الإنسان دوراً مؤثراً في توجيه الأمور نحو تعزيز فكرة المشاركة في التنمية وتوسيع هوامش الحرية والقبول بمبادئ حقوق الإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى