عندما تحولت الشيوعية إلى وباء
جورج كتن
بات من الصعب منذ بداية القرن الحالي على أي ديكتاتور في أية بقعة من العالم أن يفلت من العقاب لجرائم ارتكبها بحق شعبه أو شعوب مجاورة، فقد تتالت محاكمات قادة صرب وإفريقيين والرئيس العراقي المخلوع، وانطلقت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وصدرت المذكرة بتوقيف رئيس متربع على كرسي الحكم لاتهامه بارتكاب جرائم ضد مواطنيه الدارفوريين، وتجري الآن محاكمة مسؤولين كمبوديين رغم مرور ثلاثين عاماً على انهيار نظامهم الدموي، والحبل على الجرار.. فعدالة العولمة تمهل ولا تهمل.
لم يكن أحد يتوقع عندما استولى الحزب الشيوعي الكمبودي –الخمير الحمر- على السلطة عام 1975 أنه لن يستمر أكثر من أربعة أعوام، فالشيوعيين كانوا مشبعين بالحماسة لما سموه “عصر التحول من الرأسمالية إلى الاشتراكية”، فالرأسمالية برأيهم حينها تعاني أزمتها الأخيرة. ولتسريع انهيارها رأى الخمير الحمر وزعيمهم بول بوت أن الشيوعية هدف نبيل يبرر قتل مئات الآلاف.
ووجدوا أن أفضل طريقة لإلغاء الطبقات هي إلغاء المدن وتحويل كل سكانها للريف ليصبحوا فلاحين، فالفلاح حسب الكتاب الأحمر المقدس لماو هو المثال الأعلى للإنسان الشيوعي “من طراز جديد!”. وهكذا أخلى الخمير الحمر العاصمة بنوم بنه من سكانها -3 ملايين- بجرة قلم. الترييف عملية معاكسة للتمدين مارسها عسكريو الانقلابات الشرق أوسطية من أصول فلاحية بتسهيل الهجرة للمدينة لتتحول إلى تجمع ريفي كبير. أما الخمير الحمر الأكثر “ثورية” فابتكروا إلغاء المدينة لأنها مصدر “إفساد”، لخلق مجتمع فلاحي نقي بلا شوائب مدنية أو ثقافية أو تجارية أو صناعية، كما عمل هتلر لمجتمع ألماني نقي خاص بالعنصر الجرماني.
أغلق الخمير الحمر المدارس والجامعات والمستشفيات والمصانع، ولاحقوا المثقفين والفنانين الذين أصبحوا في عداد المجرمين، فقتلوا كل من يحمل نظارة أو جريدة بتهمة أنه مثقف، فطبقة “الأنتجلنسيا” حسب التعبير الشيوعي “متذبذبة” من المفضل إبادتها. ومنعوا الأديان ودمروا معابد ومساجد وقتلوا رجال دين بوذيين ومسلمين وعشرات آلاف الكمبوديين من أصل تايلاندي أو فييتنامي أو صيني لمجرد انتمائهم هذا. فالتعددية غير مستحبة ماركسياً، حتى أنهم ألغوا التعدد اللوني!! فمنعوا الملابس الملونة لمواطنيهم لأن الخميرعرفوا بارتداء الملابس السوداء، مما يذكر بالطالبان الأفغان وإجراءاتهم الهمايونية المنسوبة للإسلام.
وبما أن الماركسية الينينية ستلغي المال وتبني مراحيض للبروليتاريا من الذهب، فقد اختصر الخمير الحمر الطريق فألغوا العملة والبنوك والتجارة. وبما أن الشيوعية قالت أن العائلة ستضمحل قاموا بفصل الأطفال عن أهلهم ومنعوا تداول تعبيري أم وأب وأعطوا للمنظمات الحزبية صلاحية تقرير من سيتزوج من. وكان مجرد صدور كلمة تشكك بالنظرية الشيوعية وتطبيقاتها “الخلاقة” كافية لإعدام صاحبها.
خلال أشهر تحول أهالي المدن إلى فلاحين وتحول الفلاحون قسرياً لعمال زراعيين في مزارع الدولة الجماعية المنشأة على عجل، ونتج عن إلغاء الحوافز المادية انهيار الإنتاج الزراعي مما أدى إلى مجاعة كبرى. ورد الخمير بإجبار الفلاحين على العمل الشاق المرهق لساعات طويلة تحت التهديد بالقتل الذي كان يتم لجميع أفراد أسرة الفلاح المقصر. وسمي هذا “حزماً ثورياً” لجعل الفلاحين يعملون، لتصادر الدولة الحاصلات الزراعية وتترك للناس ما يكفي لاستمرار المجاعة.
تحولت البلاد إلى معسكر اعتقال كبير من نموذج معتقلات ومعسكرات العمل الستالينية. وأدت أعمال الإبادة والتعذيب والترحيل القسري والعمل الشاق والمجاعات وانتشار الامراض إلى مقتل ما لا يقل عن مليون ونصف كمبودي أي خمس سكان البلاد، التي تحول إسمها إلى “كمبوشيا الديمقراطية”!! نعم لا غرابة فهي “الديمقراطية” من النموذج الشيوعي المسمى حتى الآن في دول معدودة : الديمقراطية الشعبية!!
عملياً كان مستحيلاً مواجهة النظام الدموي المدعوم بالنظرية الشيوعية بجهود بقايا الشعب الكمبودي المنكوب، وربما لولا الصراع الكمبودي- الفييتنامي الذي أدى لاحتلال فييتنام لكمبوديا وإنهاء نظام الرعب والموت الوحشي، لاستمر الوباء الشيوعي عقوداً عديدة كنظيره الكوري الشمالي مثلاً. ورغم أن الخمير خسروا الحكم والتجأوا للغابات عند الحدود مع تايلاند، فقد استمروا بالوجود بعد تلقي دعم سياسي ومادي من تايلاند وأميركا والصين بحجة مواجهتهم للاحتلال الفييتنامي، إلى أن انسحبت فييتنام من كمبوديا وسلم آخر معقل للخمير في العام 1998.
مات بول بات قبل محاكمته، فظروف البلاد الداخلية أدت لمرور وقت طويل إلى أن تم الاتفاق بين الامم المتحدة وكمبوديا على تمويل وتشكيل المحكمة من قضاة كمبوديين ودوليين وباعتماد قوانين دولية ووطنية. سيحاكم أمامها الأحياء من بقايا قيادات النظام الشيوعي ومنهم : ديوك مدير السجن الرئيسي للتعذيب والإبادة، وشيا منظر الحزب، وساموفان رئيس الدولة، وساري وزير الخارجية، وسيريث وزير الشؤون الاجتماعية.
من المؤسف أن الديكتاتوريين في منطقتنا لم يرعووا بعد، إذ يتصورون أن “عدالة العولمة” لن تطالهم، فكل منهم يعتقد أن “على رأسه ريشة”. فالرئيس البشير سخر من المحكمة الجنائية الدولية وصرح: “أنها وقضاتها وكل من يدعمها تحت جزمته”، علما بأن 108 دولة مشاركة في اتفاقيتها وتدعمها، ولا نتوقع أن تكاتف الحكام العرب معه في قمة قطر سيفيده كثيراً.
ممانعة الحكام ممكنة في الوقت الضائع ولكن الديكتاتورية تلفظ أنفاسها الأخيرة. وعلى الأغلب ستكون نهايتها في هذا القرن لتوضع مخلفاتها في المتحف الإنساني إلى جانب الفأس الحجرية والمحراث الذي تجره الحيوانات، في المكان الذي لم ينجح الماركسيون بوضع الرأسمالية فيه.
* كاتب من سوريا
– نيسان 2009
خاص – صفحات سورية –