دور قوى اليسار في ظل الأزمة الراهنة
معتز حيسو
يتحدّد التناقض الاقتصادي بكونه المستوى الأساسي والمحدِّد لأشكال التناقض بين ( الطبقة العاملة وكافة المتضررين من تناقضات النظام الرأسمالي) وبين (الامبريالية الرأسمالية بأشكال تجلياتها المتباينة والمختلفة) عبر تناقض موضوعي بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، لذلك يجب على التعبيرات السياسية الماركسية أن تواجه هذا التناقض لكونها تمثل النقيض الموضوعي للنظام الرأسمالي .
إن التطور المادي لتاريخ النظام الرأسمالي وصل في لحظته الراهنة وفقاً لأشكاله ومستوياته المتباينة والمختلفة، إلى درجة كبيرة من التعقيد والتباين الجيو سياسي والتناقض الاجتماعي … وجراء هذا نرى بأن تتداخل وتشابك أشكال الصراع الطبقي وفق آليات ومستويات متباينة ومتنوعة وصل لدرجة يصعب فيها أحياناً تحديد الحدود الطبقية وأشكال ومستويات الصراع الطبقي. إن الشرط الدولي القائم على التناقض والترابط والتوسط والتشابك يزيد من حدة التباين والتناقض الاجتماعي، ويزيد أيضاً من شدة تعقيد لوحة الصراع العالمي والإقليمي والمحلي.
ولكون المنظومات المعرفية التي يتم من خلالها التعبير عن التناقضات الاجتماعية وعن مصالح الفئات الفقيرة والمستغَلّة والمهمَّشة نتاج واقع مادي دائم التغير والتبدل، إن لم يكن بنيوياً فعلى الأقل في أشكال تجلياته الظاهرية الدالة على المتغيرات الجوانية للواقع الاجتماعي الموضوعي. ولكون الماركسية تمثل نتاج واقع اجتماعي موضوعي دائم التغير والتبدل والتطور، فهي موضوعياً تخضع لقوانين التطور المادي القائم على التناقض، وكما نعلم فإن الفهم المادي للتاريخ هو من أهم ما أنتجه ونظّر له كارل ماركس.
وانطلاقاً من الواقع الموضوعي الذي يتحدد على أن النظام الرأسمالي هو نظام معولم بأشكال ومستويات نسبية متباينة ومتناقضة بذات اللحظة تبعاً لقوانين حركة رأس المال القائمة على التناقض في سياق التنافس في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية القائمة على شفط فضل القيمة لمضاعفتها ومراكمتها احتكارياً في سياق تطور الإنتاج الموسع، و دمجها في العملية الإنتاجية المتوسعة. وعلى أساس هذه القوانين إضافة إلى نزوع معدل الربح نحو الانخفاض تتحدد أشكال توظيف الرساميل الصناعية ذات التركيب المعقد والمكثف التي تميل إلى التكتل والاندماج والاحتكار، والتي يتحدد على أساسها أيضاً هجرة الرساميل نحو الأطراف المندمجة وذات مناخات استثمارية مناسبة. وفي البلدان الطرفية يمكن أن نرى النتائج السلبية لسياسات رأس المال الحر الذي يسعى لتوظيف أجهزة الدولة وبناها التحتية لتحقيق أهدافه الربحية التي تهدد البنى الاجتماعية وتزيد من حدة التناقض الطبقي والاستقطاب الاجتماعي. و على أساس الترابط والتشابك المحدَّد على قاعدة تناقض علاقات الإنتاج الرأسمالي المعولم في بلدان المركز الرأسمالي و البلدان الطرفية المندمجة والمهمشة، يمكننا أن نحدد بأن الصراع مع الرأسمالية هو صراع معولم، وقيادة هذا الصراع تقع بالدرجة الأولى على الأحزاب والقوى السياسية الماركسية المؤسسة على الديمقراطية و المعبِّرة عن مصالح كافة المتضررين من تناقضات الرأسمالية. وأشكال هذا الصراع تتحدد على أساس الواقع الملموس لكل بلد، مما يعني التباين والاختلاف في أشكال وآليات ومستويات الصراع الطبقي، دون التخلي عن التنسيق والتعاون بين القوى الماركسية .
إن تجاوز تناقضات النظام الرأسمالي يحتاج إلى تعبيرات وقوى سياسية تعبّر عن مصالح الفقراء والمضطهدين، ونعلم بأن الماركسية هي وليدة المجتمعات الرأسمالية، ونعلم أيضاً بأن ماركس كان يرى بأن تجاوز الرأسمالية يبدأ من البلدان الرأسمالية المتقدمة إلى أن أتى لينين وقال بإمكانية كسر حلقة التطور الرأسمالي من أضعف حلقاته أي من البلدان المتخلفة التي تشكل خزانات الإمداد للدول الرأسمالية .
إن ما يعانيه النظام الرأسمالي حالياً من أزمة بنيوية لا يعني بالمطلق أنه سوف ينهار بمفاعيل أزمته الداخلية، لأنه وكما نعلم من الممكن أن يعيد إنتاج وتجديد ذاته في سياق أزمته بفعل عطالة البديل السياسي الطبقي وغيابه عن الفاعلية السياسية. وكما بات واضحاً بأن التعبيرات السياسية الشيوعية بكافة تنويعاتها وأشكالها تعاني جملة من الأزمات تمنعها حالياً من أن تكون النقيض الموضوعي للرأسمالية. ويأتي في مقدمة هذه الأسباب:ــ تشكّل الأحزاب الشيوعية من الفئات البرجوازية الصغيرة المحدودة الآفاق في مشاريعها السياسية والطبقية.
ـــ النزعة المغامرة التي اتسمت بها بعض القيادات السياسية التي كانت ترى بأن سمات المرحلة /سابقاً / الانتقال إلى الاشتراكية وعلى أساس هذا الفهم وفي ظل غياب الجذر الاجتماعي لهذه القوى خاض أصحاب هذا الرأي صراعاً غير متكافئ مع السلطات السياسية الرسمية.
2 ـ النزعة الإصلاحية / المطلبية التي تمثلها الأحزاب الشيوعية الرسمية التي رأت بأن سمات المرحلة الانتقال للرأسمالية. والبرجوازية الحاكمة هي المعنية بإنجازها، ومما زاد الأمر تعقيداً تبني بعض البرجوازيات الحاكمة التحويل الاشتراكي مما ساهم في قيام ( تحالفات طبقية ) بين الأحزاب الشيوعية وأحزاب السلطة. وترافق في هذا السياق وجود بعض قوى ماركسية قومية، وجميع القوى اليسارية عانت من إشكاليات وٍتناقضات متشابهة.
ـــ عانت القوى الشيوعية في لحظات نشوئها وتطورها من غياب حاضنها الاجتماعي، لتبقى أحزاباً نخبوية تعجز عن تحويل الفكر الماركسي لقوة مادية ( القوى الاجتماعية الحاملة لمشروع التغيير هي التي تمتلك إمكانية تحويل الفكر من القوة إلى الفعل)
ـــ لم تستطع الأحزاب الشيوعية تقديم برنامج سياسي / اقتصادي يعبر عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المتعيّن.
ـــ تبعية الأحزاب الشيوعية الرسمية للاتحاد السوفيتي السابق، وتخلي قادتها عن تحديد سياساتها الداخلية للقادة السوفيت مما انعكس سلباً على آليات عملها السياسي وعلى علاقاتها السياسية الداخلية لاحقاً.
ـــ بعد انهيار التجربة الاشتراكية وهيمنة الرأسمالية بأشكالها المتباينة، تطورت الميول الليبرالية في كثير من الأحزاب الشيوعية التي تحولت إلى أشكال سياسية تتناقض مع مضامينها الطبقية لتتحول موضوعياً لأحزاب ليبرالية تلتحف الشيوعية شكلاً.
ـــ اعتماد بعض القوى السياسية الشكلانية السياسية و الديمقراطية بمستواها السياسي فقط متقاطعاً مع ميول إنتظارية وأحياناً المراهنة على المتغيرات الدولية والضغوط الخارجية نتيجة للعجز البنيوي عن إنجاز مشروعها الطبقي.
ــ إن مجمل ما أوردناه من أسباب يترابط مع غياب الحياة السياسية الديمقراطية في معظم البلدان الطرفية وسيطرة نظم سياسية اعتمدت القوة والقمع المنظم والمقونن إضافة إلى اعتماد سياسة الاحتواء والهيمنة على كافة المؤسسات الاجتماعية لتدعيم سيطرتها الطبقية مما أدى إلى تجفيف منابع العمل السياسي. وترافق هذا مع غياب الحياة الديمقراطية في كافة الأحزاب السياسية ومنها الشيوعية، إضافة إلى تضخم الأنا الشخصية لقيادات هذه الأحزاب والتقيد الدوغمائي والحرفي للنصوص الماركسية، غياب الجذر الثقافي في الممارسة السياسية مما استدعى في كثير من الأحيان تهميش و طرد المثقفين من هذه الأحزاب، عدم تحديد موقف واضح من السلطة السياسية ومن أشكال وآليات المشروع التغييري … إن مجمل ما تناولناه يفترض من المعنيين بالشأن العام والماركسيين حصراً تكريس العمل السياسي المؤسس على الفهم الفلسفي والثقافي في الممارسة السياسية الديمقراطية، والعمل على تبني مشروعاً سياسياً طبقياً عماده الأساس التعبير عن مصالح المتضررين من النظام الرأسمالي في سياق عمل سياسي يقوم على الربط بين المهام الوطنية والديمقراطية بالمستويين السياسي والاجتماعي،تحديد موقف واضح من السلطة السياسية بكونها سلطة قمع سياسي واستغلال طبقي، لكونها تعبّر عن مصالح الفئات البرجوازية في سياق ارتباطها البنيوي مع المشروع الرأسمالي العالمي المأزوم. إن تجاوز الأزمة الراهنة يبدأ من تبني المهام المحلية المرتبطة بنيوياً بالنظام الرأسمالي العالمي، وهذا يفترض برنامجاً سياسياً طبقياً واضحاً يقوم على الفهم الواضح للوحة الصراعات الطبقية العالمية، يكون للقوى الاجتماعية المتضررة من تناقضات النظام الرأسمالي العالمي وأشكال تجلياته الطرفية الدور الأساس في تحويله إلى قوة مادية حقيقية، ويتجلى هذا من خلال كسر احتكار واحتواء السلطات السياسية المسيطرة للممارسة السياسية، ومن المؤكد بأن الأزمة الرأسمالية بأشكالها الراهنة سوف تزيد من حدة التناقضات الطبقية مما يعني مبادرة القوى الماركسية لقيادة العملية السياسية للتغيير الاجتماعي، وإلا سوف تكون في مؤخرة المتغيرات القادمة، لأن الواقع لا يحتمل الفراغ والمجتمع سيقوم بفرز قياداته الطبقية التي تتولد في لحظة الصراع الذي يمكن أن يأخذ أشكال مختلفة.
الحوار المتمدن