ذلك الماركسيّ المتميّز
محمد سيد رصاص
بو علي ياسين : أحد وجوه الفكر النّقديّ (9)
(إلى بوعلي ياسين في ذكرى رحيله الثامنة)
عندما عاد بوعلي ياسين إلى سوريا بعد نيله لشهادة الاقتصاد من ألمانيا الغربية، في أوائل السبعينات، جلب معه نغماً جديداً لم يكن مألوفاً في الوسط الماركسي السوري، الذي كانت تسيطر عليه آنذاك الطبعة السوفيتية من الماركسية، حتى عند المخالفين في الحزب الشيوعي، الذين كان خلافهم مع السوفييت في عام انشقاق الحزب (1972) لا يمسّ الإطار الفلسفيّ، وإنما يقتصر على مواضيع سياسية (فلسطين، الوحدة العربية، الرؤية للوضع الداخلي السوري…الخ)، أو على تلك التنظيمية التي تتعلق باستقلالية الحزب الشيوعي السوري عن الهيمنة السوفيتية.
منذ ذاك الوقت طرح بوعلي ياسين اسمين جديدين على الوسط الماركسي السوري: روزا لوكسمبورغ، وفيلهم رايش، معيداً عبرهما التذكير بأنّ تراث الماركسية الأساسيّ لا يوجد في موسكو، بل في برلين، حيث كان مسار الحركة الماركسية العربية، المتأثرة بما تقدّمه موسكو، يفتقد المشاغل النظرية التي ولدَت نتاجات كبرى في الغرب الأوروبيّ: محاولة روزا لوكسمبورغ (أُعدمت في عام 1919 بعد فشل الثورة الشيوعية الألمانية) التأكيد على افتقاد النموذج اللينيني للتنظيم إلى الديمقراطية، وعدم قدرته على التمثيل الصحيح للطبقة العاملة وحلفائها، إذا لم يكن مساره الفعليّ سيقود إلى “استبدالها السياسي” وإلغاء دورها لصالح من هم في التنظيم، وخاصة بعد الوصول للسلطة، حاصرةً– أي روزا لوكسمبورغ- دور الحزب في الدعاية والتحريض، ورافضةً كل أنواع التنظيم المركزية، فيما قدم رايش محاولة فكرية لاقتحام ميادين لم تكن موضوعة على جدول أعمال الماركسيين الكلاسيكيين مثل ماركس وانجلز، والماركسيين اللاحقين مثل كاوتسكي ولينين وتروتسكي وبوخارين، مثل ميداني (علم النفس)و (الجنس) بعد الثورة الفكرية التي أحدثها فرويد.
يمكن، عبر ذلك، فهم جدّة كتاب بوعلي ياسين: “الثالوث المُحرَم: الدين، الجنس، الصراع الطبقي”، الصادر في النصف الأول من عقد السبعينات، بالقياس إلى المشاغل المعتادة عند الماركسيين السوريين، والعرب عامة، حيث أتى هذا الكتاب في زمن بدأت فيه ترجمة أعمال تروتسكي وغرامشي وروزا لوكسمبورغ وهربرت ماركوز إلى العربية، ما كان تعبيراً عن بداية تزعزع سلطة الشيوعيين الرسميين الموالين لموسكو، الذين كان مثقّفوهم– حتى أوّل عقد الثمانينات- يصابون بالذهول والحيرة والدهشة عندما يدخلون إلى بيت ويشاهدون على رفوف المكتبة كتباً لتروتسكي وروزا لوكسمبورغ وماركوز، فيما أصبح هؤلاء، ولو اقتداءً بالموضة في زمن البيريسترويكا بأواخر الثمانينات، يستشهدون بمقتطفات من كتبهم.
لم يكن بوعلي ياسين مثقّفاً محضاً، اقتصر على المشاغل النظرية، وإنما امتدّ إلى النشاط العمليّ السياسيّ، حيث انخرط في (الحلقات الماركسية السورية) التي تولّد عنها تنظيم (رابطة العمل الشيوعي في عام1973\حتى خروجه منها في أواخر عام1976 بعد خلافات نظرية وسياسية، لينخرط بعدها، منذ عام1977، في الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)، حيث كانت له مساهمات مهمّة في (موضوعات المؤتمر الخامس، كانون أوّل 1978) وفي الجريدة المركزية للحزب: “نضال الشعب”، وهو ما استمرّ عليه لفترة طويلة لاحقة من الزمن الذي أعقب اعتقالات خريف عام 1980 التي شملت قيادة الحزب وكوادره وأعضاءه ، ولن أنسى، في هذا الصدد، منظره عندما أتى لرؤية الأستاذ رياض الترك في أحد البيوت باللاذقية، بذاك اليوم من شهر تموز من عام 1998 بعد خروج الأستاذ الترك بشهرين من المعتقل الذي طال ثمانية عشر عاماً، عندما اجتمعت الغبطة والإيمان في عيني بوعلي ياسين، في صورة مخالفة كثيراً للغالبية الكاسحة من المثقفين السوريين الذين كانوا في تلك الأيام عازفين وفارّين من أي نشاط سياسيّ معارض، فيما رأيناهم منذ صيف عام2000 يحاولون تصدّر المشهد السياسي على حساب الأحزاب المعارضة، التي دفعت الكثير في الثمانينات والتسعينات.
من خلال معرفتي ببوعلي ياسين، لاحظت إنساناً مختلفاً عن ما نشاهده في الوسط الثقافي بسوريا الربع الأخير من القرن العشرين (والحالي): اجتماع التواضع مع المعرفة، والبعد عن حبّ الظهور، والقدرة على الإصغاء العميق للطرف الآخر، والفضول المعرفي الدائم وخاصة للمعلومات والطروحات الجديدة، سواء كان يقبلها فكرياً أم لا. وأذكر في هذا الصدد، لما ذكرت، للجالسين في بيت أحد الأصدقاء باللاذقية في صيف عام1996، ما كان يقوله أحد الأساتذة الأمريكان كان يعلّمنا في قسم الأدب الإنكليزي بجامعة حلب في السبعينات عن أنّ مدارس النقد الأدبي “أسطورة فرنسية”، وأنّ النقد الأدبي هو ذائقة وانطباع فرديّ للمتلقّي مع النص، كيف انتفض أحد “أعلام النقد العربي” من الجالسين هناك، فيما ذكَر بوعلي ياسين بأنّ ذلك لا يخرج عمّا كرَّسته نظريات وولفغانغ آشر حول (القراءة)، التي كان واضحاً أنّ ذلك “العلم”، الذي طبقت شهرته الآفاق، لا يعرف شيئاً حولها ولم يسمع بها. وإن أنس فلا أنس كيف كان تعامل بوعلي ياسين مختلفاً مع كتابي: “ما بعد موسكو” دار الينابيع، دمشق 1996، الذي سببت بعض طروحاته حول (وظيفية الفكر السياسي) ردود فعل أقرب للهستيريا الفكرية عند أوساط يسارية ماركسية معيّنة تحوّل معظمهم نحو الليبرالية الأمريكانية إثر سقوط بغداد في عام2003، بسبب ما ورد فيه من أفكار حول أنّ معظم الأفراد، الآتين للأحزاب الأيديولوجية الحديثة من فئات= أديان، طوائف، قوميات، وخاصة من الأقليات، موجودة في مجتمع غير مندمج، يحملون هذا المقدار أو ذاك من ميول واتجاهات ومصالح تلك الفئات إلى تلك الأحزاب وتتلون رؤيتهم الأيديولوجية-السياسية بشيء من ذلك: يمكنني القول، هنا، بأن طريقة ومضامين نقاش بوعلي ياسين لطروحات ذلك الكتاب، التي سببت بداية انفراط علاقات لي مع رفاق وأصدقاء في السياسة والفكر كان عمرها عقدان من الزمن، قد شكلت عزاءً كبيراً لي آنذاك.
في هذا الزمن الصعب، الذي تحوَّل فيه الكثير من الماركسيين السوريين (والعرب) ويمّموا وجههم نحو الكعبة الأميركية (أحدهم كان يضع تمثال كارل ماركس على واجهة مكتبته حيث كنا نجلس عنده بصالون البيت) غالباً ما كنت أتذكّر شخصين تمنّيت لو كانا على قيد الحياة ليقوما بالواجب النظري-الفكري ضدّ هؤلاء، هما الياس مرقص وبوعلي ياسين، وإن كنت، أيضاً، أحسدهما في قلبي على تحرّرهما من العذاب المعنويّ الآتي من رؤية مناظر كهذه، تماماً كما يمكن أن يُحسد الشهيدان أبو جهاد وأبو إياد على فقدانهما للحياة قبل يوم تلك الحفلة التي جرت في حديقة البيت الأبيض لتوقيع اتفاقية أوسلو.
موقع الاوان