ترك وعرب وكرد وأرمن في حضرة الإرث العثماني
فالح عبد الجبار
يقال إن الأمم كالأفراد، تختزن الأحقاد، وتورث التكاره عبر الأجيال.
ينطبق هذا علينا كما على غيرنا. الأحقاد الدينية التي تنتمي الى حقب الماضي تطل براسها علينا كلما جدّت ازمة. والأحقاد القومية التي تنتمي الى العصر الحديث، ترفع رأسها بين الحين والاخر (شهدت بيروت احتجاجات أرمنية عى احتفال تركي قبل ايام) ولعل تركيا هي الأكثر تمشكلاً بفخاخ أحقاد الحاضر، مثلما ان ايران متمشكلة في مطبات أحقاد الماضي.
لتركيا الكمالية او ما قبل الكمالية الموقع الارأس في ثلاثة إشكالات قومية. الاشكال الاول مع العرب، والثاني مع الكرد، والثالث مع الأرمن، وهي تنتمي زمنياً الى فترة مطلع القرن العشرين، او بتحديد ادق الحرب العالمية الأولى، وهي فترة عصيبة للجميع، حين ننظر اليها من شرفات بداية القرن الحادي والعشرين.
فتلك هي حقبة الموجة الثانية والكبرى للقوميات اي لتشكيل الأمم الحديثة، القائمة على مبدأ إن لكل امة دولة خاصة بها. وهو المبدأ الذي تبارى على مناصرته الرئيس الاميركي وودرو ويلسون والزعيم الروسي (الصاعد) فلاديمير لينين. وكان هذا يعني نهاية الامبراطوريات القائمة على الدين، وحلول الأمم القائمة على وحدة اللغة والتاريخ محلها.
صحا العرب والكرد والأرمن على حقائق هذا العصر، بالأحرى صحت نخبهم المثقفة. وكان الأتراك قد سبقوا العرب والكرد والأرمن وغيرهم من رعايا الدولة العلية، الى مبدأ القوميات، بعد ان عانوا منه على يد رعاياهم من البلغار واليونان أيام كان هؤلاء يتمردون بالسلاح على الحكم العثماني.
انفتح العرب والكرد والأرمن على المسألة القومية في لحظة الحرب العالمية الأولى، فكانت مذابح الأرمن او المذابح الأكبر، من نتائجها الفظيعة.
وكان لبعض نشطاء العرب (بخاصة في الشام) المصير نفسه: الشنق. وبالطبع فإن شنق عشرات لا يوازي في فظاعته ابادة الآلاف كما حصل مع الأرمن.
غير ان للأمم مخيلة تاريخية خاصة، لا يهم فيها الواقع قدر ما يهم الرمز. العرب ابتكروا رمز “التتريك” العثماني، و”المشانق” للأحرار. وهي خرافة كاملة: لأن الدولة العثمانية كانت ثنائية اللغة، التركية للادارة، والعربية للشؤون الدينية والقانونية. وللأكراد ايضاً تظلمات ازاء تركيا لكنها تنصب على أتاتورك والأتاتوركية. وهكذا يرث الأتراك أحقاداً وضغائن قومية من رعاياهم السابقين عرباً وكرداً وأرمن.
لكن الأتراك يرثون من ماضيهم العثماني ازدراء العرب بوصفهم “خونة” عملوا مع الغازي الانكليزي. وما تزال عبارة “عرب خيانات” تتكرر على المسامع، وهي صفة يطلقها الترك ايضا على الأرمن.
فالمذابح والصدامات التي ولدت هذه المشاعر المضطربة جرت خلال فترة الحرب. والمعروف ان القانون العرفي العسكري يسبق القانون المدني زمن الحروب، حتى في أكثر البلدان ديموقراطية. فكيف بنا في حال بلدان ما تزال ملامح الاستبداد فيها مكينة، راسخة. سألت مؤرخين أتراكا مراراً ان كانوا سيعيدون النظر في كتابة تاريخهم، فردوا السؤال نفسه: ومتى تعيدون النظر انتم؟ ثم اقترحوا اعادة نظر جماعية، تُطرح فيها التحيزات جانباً، ويصار الى درس الوقائع في سياقها.
في الحرب تسقط المدنية. وفي الحرب تسقط المحرمات. هذا هو قانون الممارسة البشرية، الذي ميز الحرب العالمية الأولى، التي كان الأتراك احد اطرافها الرئيسيين، كما ميز الحرب العالمية الثانية: مذابح هتلر، مذابح ستالين للتتار، مذابح اليابان في آسيا، ثم المحرقة الاميركية الكبرى في هيروشيما وناكازاكي.
المذابح لا تُغتفر، لكن ارثها يمكن ان ينقل الى الاجيال بلا نهاية. يمكن الاحتفاظ بمبدأ نبذ العنف، واحترام حق الحياة كمبدأ أسمى. انه الحق الأول الذي لا يعلوه اي حق.
لكن فينا من يوجه الكراهية ليس الى الابادة ولا الى المبيد الاصلي، بل الــى ورثتــــه الابعدين، حتى لو كان هؤلاء براء من كل خرق انساني، وحتى اذا كانوا لم يسمعوا قط بما جرى، او حتى إن كانوا غافلين عن حقائق ما جرى.
لكن الكراهية التي نجدها الآن تتجه الى الشعوب، انها كره مسلط على التركي، او العربي، او الكردي، او الأرمني، بما هو كذلك. لكأن كل فرد يولد في هذه الجماعة ملزم بسداد كل ديوننا الاخلاقية.
يمكن للأرمن توجيه كراهيتهم المشروعة الى المذابح والى منشئها الاصلي، ليخلصوا الى الموقف الانساني النبيل، المضاد لكل وأي ابادة. بالمقابل يمكن للأتراك (الرسميين طبعاً) ان ينبذوا هذا الدفاع الاعمى عن الماضي، والقبول بمبدأ الاعتذار. فاليوم يعتذر استعماريو الأمس عن اساءاتهم (اعتذار ساركوزي للجزائر مثلا).
ويمكن للعرب توجيه كرههم للتتريك كسياسة متعصبة، لا ان يحولوا ذلك الى تعصب جديد ضد الأتراك. وحري بهم ان يدققوا افعالهم في التعصب ضد الأكراد، وضد قوميات واديان اخرى بكاملها. وان يدققوا ايضا في ممارستهم عقوبة الاعدام، بحرب او بدونها، ضد ابناء وطنهم المخالفين في رأي وايديولوجيا، علما ان القانون الحق يعاقب على الافعال لا الاراء.
وبوسع الكرد ان يوجهوا غضبهم ومقتهم الى سياسات التعصب التركي، لا الى التركي نفسه، فهذا تعصب مماثل وان يكن معكوساً.
وعـــدا هـــذا وذاك فإن في الارث العثماني- التركي صفحات براقة، ينبغي الاعتراف بها. فالترك العثمانيــــون أول من رفع راية التحديث بانشـــاء الجيوش الدائمة، والادارة الحديثة، وارساء الحكم لا على قاعدة التراث السلطاني، بل على اساس الدستور الحديث. وبفضلهم ايضا دخلت أولى الاصلاحات، من ارساء مبدأ الملكية الخاصة، حجر الزاوية في المجتمع الحديث، الى انشاء البرلمانات.
هذا التراث ندين به لتركيا العثمانية وهو حق ورثتها علينا، مثلما ان بغضنا للأوجه السالبة من هذا التراث حق لنا ولهم.
الحياة