ما بعد بوعلي ياسين.. حكاية هوية
نبيل الملحم
بو علي ياسين : أحد وجوه الفكر النّقديّ (8)
الحنين إلى الماضي، أيّا كان، وعلى أيّ شاكلة كان، زاهيا، أو متوهَما، أو مفترضا، لا بدّ أن يكون في بُعد منه، إنكارا للحظة أو احتجاجا عليها، وواضح أنّ هذا الإنكار (وبوجهه المعكوس – الحنين)، بات ثقيل الوطأة على الحوار الثقافيّ السوريّ بدءا من إنجازات القصيدة، مرورا بخيبات المسرح، وليس آخر مطافاتها الحوارات الفكرية بما حملت من تأسيس أو إلغاء.
ربّما يكون المثال الأحوج إلى الاستحضار، مثال الكاتب الراحل بوعلي ياسين، الذي أطلق :” الثالوث المحرّم” بتوقيعه، فيما شارك نبيل سليمان في :” الأدب والايدولوجيا في سوريا”، والكتابان تحوّلا منتصف السبعينات إلى إنجيل للمثقفين السوريين الخارجين من نكسة حزيران، بما تحمل من نكبات تتخطّى مصطلح النكسة، كونها أسقطت بالإضافة إلى الأرض، حلما حملته الناصرية إلى الشام، وتآكل على يد حامليه بمنوّعاتهم.
الأدب والايدولوجيا، أثار آنها حوارات لم تتوقّف على رواد مقهى الهافانا، ولا عند مياومي خمّارة فريدي، ولم يكن بالوسع حجبه عن الصحافة العربية، وكذا الصحافة السورية، وكانت إبان تلك المرحلة، تعبر مناخا هو مخاض الخيارات، ليكون على رأس العابرين يساريون من أطياف مختلفة:
– تروتسكيون، ربّما لم يعرفوا من تروتسكي أكثر ممّا أصدرته دار الطليعة اللبنانية من ترجمات شحيحة عن الرجل، أبرزها سيرة تروتسكي التي كتبها إسحاق دويتشر، وبعض من الثورة الدائمة.
– ستالينيون، ممتدّون إلى الحزب الشيوعيّ السوريّ، حيث فتى الحزب المقدّس الرفيق خالد بكداش، والذي لم يتنازل أنصاره من اعتباره (الفتى)، حتى بعد أن أكلته البيولوجيا وتحوّل إلى عكاز مهمل في بيته المجاور للروائية (الفتية) ناديا خوست.
– ناصريون لم يتبقّ من ناصريتهم سوى أغنية حفظوها عن ظهر قلب والأغنية تبدأ بـ: وحدة ما يغلبها غلاب.
– بالإضافة طبعا إلى البعثيين، ولم يكن البعثيّ حينها قد خلع بدلة الحرس القوميّ.
أما الإسلاميون فكانوا بلا شكّ غائبين عن الحوار الثقافيّ السوريّ، مكتفين بالتأسيس لخطابهم المنطلق من المساجد المترامية على هوامش المدينة.
وكان المجتمع الأهليّ، يتنقّل بين خيارات ربّما أكثرها اختراقا للسائد، واحتجاجا عليه (الموضة)، فالتنانير المتوتّرة التي تكشف سيقان البنات، قد تكون البيان رقم واحد، على انتصار المجتمع الأهليّ لنفسه بعد أن ألغته الصومعة، أو زحفت عليه.
في الأدب والايدولوجيا، ذهب المؤلّفان (بوعلي ياسين – نبيل سليمان)، إلى خلاصة محدّدة:
هذا النصّ بورجوازيّ صغير، وذاك الكاتب أيضا.
وحوكم الأدب، ومجموع أدباء سوريين على ضوء وحدات قياس، يحدّدها التوجه الطبقيّ للكاتب، ويحاكم بالقياس إليها.
ما الذي أحدثه هذا الكتاب؟
فورة من الحوارات، ولكلّ من أطرافها (أشخاصا ومجموعات) بيانه، ولكلّ بيان منها ما ينبئ عن تصوّر لعالم الأدب وبالتالي لعالم السياسة، وتجاوزت الحوارات في الكتاب حجم الكتاب ذاته، وأضيف إليها حوارات ممتدّة متّصلة ومنفصلة عن الكتاب، ومن بينها سؤال:
من تختار الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، أم عبد الحليم حافظ.
وبلا شكّ فقد انتصر أنصار عبد الحليم، بعد التأكّد أنّ حليم مات بالبلهارسيا، أي مات موتا كادحا، وإن عاش عيشة باذخة، فكان النصر للموت (الطبقيّ)، الذي يموت به ناس الترع في صعيد مصر، وعلى كلّ ما في تلك الحوارات من تبسيط، وعلى كلّ ما فيها من صخب، وعلى كلّ ما أسّسته لاحقا من الظواهر الصوتية في الثقافة السورية، فقد زحفت باتجاه التأسيس لهوية سورية للثقافة، ما يعني أنّ دار التقدّم الروسية، لم تعد مادّة مرسبة في امتحانات المثقّف السّوريّ، كما تعني تلك الحوارات وعلى مالها وما عليها، أنّ حسن البنا لم يعد المرشد الروحيّ للمثقفين السوريين الذين سكنوا بالكيفية التي يحرّرون بها الدولة من الدين، ويعلنون فيها إمكانية واقعية لإنتاج أسماء سورية، مثّلت ولفترة طويلة احتياجا اجتماعيا، بما سمح للمثقف السوريّ أن يشكّل (شارعه)، ولو دخلنا بتعداد الأسماء التي أخذت تلك المساحات من الشارع لتجاوزت أضعاف أصابع اليد الواحدة من: سعد الله ونوس، إلى أدونيس، وممدوح عدوان، وفرحان بلبل، وحيدر حيدر، وبطبيعة الحال إلى: “بوعلي ياسين ونبيل سليمان”، وليس بالوسع تجاهل :” البرجوازيّ الصغير صادق جلال العظم”، فيما كانت قاعات المراكز الثقافية تغصّ بمريدي الشيخ الطيب تيزيني صاحب التراث والثورة، ومجموع الأسماء السابقة، شكّلت (حاجة اجتماعية)، بما يعني أنها باتت جزءا من حياة الناس السوريين، وما يعني أيضا أنها باتت جزءا من هوية وطنية سورية، هي الهوية التي هاجرت لحساب الهوية القومية حينا، ولحساب الهوية الإسلامية حينا آخر، وتاهت في زحمة الأممية المتشقّقة ما بين الرفيقين الروسي ف. أ. لينين وماو تسي تونغ في أحيان ثالثة، وفي كل حالاتها، سمحت بتصدير رموزها إلى المحيط، فبات سعد الله ونوس مادة أساسية في المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة، وصار أدونيس أوسع من حصار بيروت، وارتفع شأن الثقافة السورية، بما جعلها ثقافة معتمدة عربيا، وان كانت قلقة، ولا تتجاوز إرهاصات تأسيس ثقافة سورية، ما يعني ثانية تأسيس هوية سورية، الهوية التي مزّقت آلاف المرّات، بما سمح لسوريا ما بعد كلّ تمزيق أن تتحوّل إلى معبر للقوافل، أو بسطة لثقافات ومنتوجات الآخرين، وبما أدّى أن لا يكون السوريّ سوريا إلا بفعل الحكومة المركزية، لا بفعل العقل السوريّ.
سنوات قليلة عاشتها التجربة الفورة وانقطعت، مرّة بتحويل الثقافيّ إلى سياسيّ بالمعنى الحزبيّ، ومرّة بفعل التنكّر للمتراكم الثقافيّ السّوريّ، وثالثة بفعل موت أبطالها قبل إنجاز حالة، أو ما بعد إنجاز نصف حالة ونصف حال، فما الذي حدث فيما بعد؟
كلّ ما حصل ينحصر بمثال هو الدلالة: غابت الفساتين المتوتّرة عن شوارع العاصمة دمشق، وبات لون الخمار (بنيّ، أزرق، أم أسود)، هو مساحة الحوار.
بوعلي ياسين، بات منسيا، وهو من فجّر كبسولة الحوار، وحلّ اليوم ما يمكن أن نسمّيه الـ(تشات)، وهو الجدار الكتيم بين بشر يعلنون عن أنفسهم دون إعلان.
موقع الآوان