بين العروبة والحداثة
د. طيب تيزيني
اكتسب الخطاب العروبي حضوراً ملحوظاً في الفكر العربي بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أخذت مجموعة من البلدان العربية تحصل على استقلالاتها الوطنية. وراحت تنخرط في خطوات جديدة من البناء الوطني عبر تجارب سياسية قاربت -في حالات معينة- أُس الديمقراطية، مثل تأسيس برلمانات تقوم على انتخابات حرة أو قريبة من ذلك، إضافة إلى الأخذ بمبدأي التعددية والتداول السلمي للسلطة، وغيره. ولم يظهر الخطاب المذكور وحيداً، بل كانت هنالك احتمالات أخرى راحت تبحث عن مواقع لها في الحلبة السياسية والأيديولوجية العربية، من العروبية إلى الليبرالية، مروراً بالاشتراكية والإسلامية، وكذلك ما كان يمثل مظاهر فكرية عامة وفلسفية خاصة، مثل الوجودية والماركسية والهيجلية والبنيوية. وحقاً، كان هنالك حراك بقدر أو بآخر ينطلق من الواقع العربي. ومن ثم، كان القول صحيحاً بأن اجتهاداً فكرياً إضافة إلى تجاذبات أولية، أخذت تطرح نفسها في أوساط فكرية، لكن دون البقاء في هذا الحقل، فقد راحت المواقف والحوارات والجدالات الفكرية تجد انعكاساتها في الحياة السياسية لمجموعات وأحزاب وتكتلات سياسية متعددة.
لقد كوَّن ذلك خصيصة نسبية في الحياة العامة لبعض البلدان العربية، المعنية في مرحلة التأسيس لخطط ولمشاريع سياثقافية، مثلاً في تونس وسوريا ولبنان والعراق. كانت هنالك حالتان اثنتان غالباً ما تشابكتا، لتُنتجا نمطاً من المثقف السياسي أو السياسي المثقف، وكان ذلك قد أثمر خصوصاً في أوساط الفئات الوسطى (مُنتجة الثقافة والسياسة عموماً). وقد يصح القول بأن المستوى الثقافي النظري لممثلي ما يمكن اعتباره تيارات أربعة ذكرناها من قبل، كان يحبو ويسعى إلى توطّده في حياة جمهور متعاظم، مع وجود مخاطر على صعيد الواقع تقف في وجه تلك التيارات. وقد يصح إلي درجة كافية القول بأن توازناً في القوى كان قائماً بين تلك الأخيرة، دون أن يستدعي ذلك اعتقاداً بوجود حوارات متكافئة بينها في الشأن العام الاجتماعي والثقافي وغيره. لكن وتيرة من الحوار بل أحياناً من الصراع كانت تهيمن على العلاقات بين الأطراف المذكور. ولعلنا نستنبط حالة من واقع الحال هذا، هي تغييب الحياة والسجالات الفكرية، لصالح صراعات سياسية هنا وهناك.
كان ذلك قد طبع الخطاب السياسي الثقافي العام بطابع التباطؤ في النمو وأحياناً بطابع سياسي صارم ومتحزِّب مُؤْذٍ من جهة. وفي حالات أخرى قوية، ظهر نزوع للتوجه نحو تسويغات لاهوتية للتيار الذي نحن الآن بصدده، العروبة بأصولها وجذورها ووظائفها واحتمالاتها.
وإذا ذكرنا أن مرحلة الاشتباك النسبي بين التيارات الأربعة المذكورة أفصحت عن نفسها يداً بيد مع طروح “الحداثة” التي كانت تندفع باتجاه الفكر العربي على أيدي الليبراليين والقوميين خصوصاً، فإننا نلاحظ أن تلك الطروح الحداثية جرى اختراقها، بقدر أو بآخر، من موقع المسوغات الأيديولوجية، التي اخترقت فهم العروبة والاجتهاد في فهمها في حياة الشعوب العربية ضمن أمة واحدة. فرجل مثل ميشيل عفلق -وهو أحد اثنين أو ثلاثة أسسوا لفكرة “البعث”- ظل يؤْثر تفسيراً لاهوتياً (ميتافيزيقياً) لظاهرة “القومية العربية- العروبة”. فهذه برأيه -في جذورها – إن هي إلا “سُبْحة إلهية” لا تتجلى إلا لـ”المناضلين” من الرجال والشعوب. وهي من أجل أن تتجلى مجدَّداً للعرب، لابد أن تعود إلى ذاتها فتخرج من حقل “الأغيار”، كما كان يرى المؤسس الآخر لفكرة البعث وهو زكي الأرسوزي، سواء تعلق مفهوم الأغيار هذا باللغة أو بالثقافة أو بالأساس النهضوي. لهذا، واجه رجال العروبة البعثية الأوائل صعوبة نظرية في ضبط العلاقة بين الدين والقومية (العربية).
على ذلك النحو، تعثرت مسوّغات الربط بين العروبة ومنظومة المفاهيم السياسية النظرية، مثل الديمقراطية والعقلانية والحداثة. فالخطاب السياسي الديمقراطي والحداثي لم يتبلور بقوة ووضوح، مقابل التأكيد على “الوحدة العروبية- القومية”. فمفهوم “الأمة الواحدة العربية” لم يحتمل وجود إثنيات قومية في هذه الأمة -وهي موجودة- خوفاً من التفتيت. وربما كان ذلك وارداً بحدود أولية. لكنه إذ عانى من الإخفاق تلو الإخفاق، فإنه راح ينتج حالة حذر حيال مفاهيم الانفتاح والتعددية والبيروقراطية والحداثة، خصوصاً وأن هذه جميعاً ذات نسب بـ”الغرب” الاستعماري. وفي مثل هذه الحال، يسهل الدخول في حالة من التقوقع، طلباً لإقصاء المطبات.
وثمة تجربة مريرة عاشها العرب منذ عقود، تمثلت في أن أول وحدة قومية بينهم تعثرت وأخفقت بسبب تجريدها من الديمقراطية السياسية، ومن تجارب شعوب كثيرة في تحقيق نهوضها عبر الديمقراطية والحداثة والوحدة الحقة الوطنية أو القومية. إن هذا يُفضي إلى القول بأن نقداً جذرياً للتجارب القومية التوحيدية العربية يمثل الآن شرطاً حاسماً للبدء بالدخول في تجربة عربية قابلة للنجاح. والحداثة هنا لا تمثل رداءً خارجياً للعروبة مع الديمقراطية، بل إن هذه جميعاً تمثل شرطاً لإنجاز مشروع نهضوي هو كذلك شرط لإنجاز إصلاح حقيقي في البلد العربي الواحد.
جريدة الاتحاد