حقيقة وأربعة ضباط
حسام عيتاني
خرج المسؤولون السابقون للأجهزة الأمنية اللبنانية من سجنهم من دون أن توجه إليهم أي اتهامات، بعد ثلاثة أعوام ونيف من الاعتقال. لقد دخل الضباط الأربعة إلى سجن رومية القريب من بيروت وسط احتقان سياسي شديد، وساهم خروجهم في رفع حدة الاستنفار السابق للانتخابات النيابية في حزيران (يونيو) المقبل.
واعتبار قادة قوى الرابع عشر من آذار أن إطلاق سراح الضباط شهادة على حياد المحكمة الخاصة باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، في النزاع الداخلي اللبناني، يصب في نهاية المطاف في غير مصلحة هذه القوى التي اعترفت من طريق غير مباشر أن طابعا سياسيا غلب على التوقيف. والحيثيات التي ساقها قاضي الإجراءات التمهيدية في المحكمة تشير بوضوح إلى غياب ما يكفي من الأدلة لإبقاء الضباط الأربعة قيد الاعتقال إلى حين انعقاد الجلسات الافتتاحية.
غني عن البيان أن أحزاب الثامن من آذار سارعت إلى التقاط السانحة ووظفت الحدث في خدمة حملتها الانتخابية. لقد تردد في الكلمات والبيانات الصادرة عن تلك الأحزاب التشديد على أن السلطة التي كان يمسك بها فريق 14 آذار تصرفت وفق جدول أعمال سياسي بهدف إلصاق تهمة اغتيال الحريري بالضباط وبالحكم في سورية الذي كانت الأجهزة الأمنية اللبنانية تعمل تحت إشرافه المباشر قبل انسحاب القوات السورية من لبنان في مثل هذه الأيام من العام 2005.
وعمم أنصار الممانعة في لبنان تلك الواقعة للقول إن كل ما قامت به الحكومات التي تولت السلطة منذ اغتيال الحريري إنما كان على نموذج قرار اعتقال الضباط من ناحية مضامينه السياسية التي ترمي إلى خدمة أهداف الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، أكان الأمر يتعلق بالموازنة العامة أو بالعلاقات الخارجية.
الحقيقة الموضوعية غير مهمة في سجال من هذا النوع، ولا تكتسب الاتهامات قوتها من الأدلة المادية، بل من ذاتها ومن الظروف التي تصدر فيها.
حضرت السياسة بقوة في عمليتي الاعتقال والإفراج. السياسة بمعناها الضيق (اللبناني والعربي عموما) بما هي تصفية حسابات واستخدام للقضاء في إلغاء الخصوم، وبما هي أيضا استعراض للنكايات وللتشفي من الخصم المهزوم أو الذي يبدو كذلك في ساعات الضعف والافتقار إلى النصير.
وليس صحيحا ما ذهبت إليه قوى 14 آذار من أن القرار الأول الذي يحمل صفة تنفيذية والصادر عن المحكمة الدولية يعزز مصداقية المحكمة حتى لو ناقض روايات 14 آذار لوقائع الاغتيال وللظروف التي رافقته. لقد أنشأ تحالف القوى السيادية (بحسب العبارة التي كانت مستخدمة في تلك الفترة) قسما مهما من سلطته المادية والرمزية على جملة من القرائن التي أراد رفعها إلى مستوى الحقائق والمسلمات غير القابلة للنقاش، وجاء قرار المحكمة ليقول إن تلك القرائن لا يمكن وضعها خارج النقاش، إذا أراد اللبنانيون فعلا أن تلتزم المحكمة الخاصة بالمعايير القانونية الدولية.
يتعين الانتباه، في المقابل، إلى أن المحكمة لم تصدر قرارا ببراءة الضباط الأربعة ولا بإدانتهم، خلافا لما حاول الإيحاء به مسؤولو أحزاب الثامن من آذار ووسائل الإعلام المؤيدة لهم. ومثلما أن الأدلة لا تكفي لإبقاء الجنرالات الأربعة في السجن، فإن التحقيق لم ينته بعد، وبالتالي فقد تظهر أدلة جديدة تعيد الضباط أو بعضهم إلى قفص الاتهام أو منصة الشهود.
لقد أصرت المحكمة على أن تتسم إجراءاتها الأولية بالحد الأقصى من الشفافية والدقة، وهاتان صفتان نادرتان في عالم السياسة اللبنانية التي يكثر فيها الزبد ويقل فيها ما ينفع الناس. ولم ترد المحكمة الدولية في مطلع عملها أن تجاري اللبنانيين في مناكفاتهم الضيقة، من دون أن يعني قرارها إدانة أو تبرئة لأي كان، خصوصا أن القرار الاتهامي المنتظر الذي يفترض أن يحمل وجهة نظر الادعاء حيال الجهة التي يعتقد أنها متورطة في الاغتيال وفي الجرائم الأخرى التي تدخل في نطاق اختصاص المحكمة، لم يصدر بعد.
بكلمات أخرى، وجهت المحكمة الدولية إلى اللبنانيين رسالة مفادها أن قوانين عملها لا تخضع لحساباتهم، وأن القضية التي تنظر فيها والتي خرجت من بين أيديهم بعد إخفاقهم في الاتفاق على صيغة لتولي القضاء اللبناني النظر فيها، ستُدرس وسيصدر الحكم في شأنها وفق ما يتوافر من الأدلة والبراهين وليس بحسب موازين القوى المحلية.
واللبنانيون، على جاري العادة، لن يلتقطوا من مضمون الرسالة سوى ما يلائم تفسيراتهم وتصوراتهم، وهي لا تقل عن إدراج قرار الإفراج عن الضباط في سياق المفاتحات الأميركية–السورية أو التغيرات العامة التي يدخلها الرئيس باراك أوباما على سياسات بلاده في الشرق الأوسط. الأرجح أن شططا يشوب التفسير المذكور إذا وضعت قضية الضباط الأربعة أمام البنود الأخرى التي تشغل جدول أعمال زعيم أي دولة كبرى.
* كاتب لبناني