العدالة الدولية والقضاء في البلدان العربية
المحامي ميشال شماس
إن قرار المحكمة الدولية ذات الطابع الدولي الخاصة بلبنان إطلاق سراح الضباط الأربعة المتهمين في قضية اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، ومن قبله قرار محكمة الجنايات الدولية باعتقال الرئيس السوداني عمر البشير قد كشف عن مدى ضعف السلطة القضائية، وسلط الضوء ساطعاً على مدى قدرة القضاء ليس في لبنان والسودان، بل وفي جميع البلدان العربية في العمل باستقلالية بعيداً عن أية ضغوط سياسية أو حزبية أو حتى قبلية أو طائفية، وكشف أيضاً عن مدى عجز القضاة في البلدان العربية بلا استثناء في العمل بحرية واستقلالية بعيداً عن ردة فعل الجهة التي عينته ؟ فماذا في وسع القاضي أن يفعل إزاء تأثير تلك الجهة التي عينته قاضياً؟ ربما يجيب أحدنا على ذلك بالقول: “على القاضي إذا ما تعرض لضغوط تأثير من الجهة التي عينته أن يسترشد بضميره لرفع الظلم، وإذا فشل في ذلك عليه أن يبادر إلى تقديم استقالته فالاستقالة اشرف له من التستر على الظلم ومخالفة القانون”. هذا الكلام يصح في فترة الخمسينات وحتى أوائل الستينات عندما كان القاضي يتمتع بكثير من الاستقلالية قياساً لما عليه الأمر اليوم ، بفضل ثقافة استقلال القاضي التي كانت سائدة في تلك الفترة والتي كانت متأثرة بالنظام القضائي الفرنسي أيام الاستعمار الفرنسي والتي استمرت واضحة وقوية حتى ما قبل الوحدة السورية المصرية، أما بعد ذلك فإن أمور القضاء في البلدان العربية اتجهت إلى مزيد من الحد بتلك الاستقلالية وتهميشها نتيجة ميل السلطات إلى التدخل في شؤونه، وقد ظهر ذلك التدخل جلياً في استخدام القضاء كوسيلة لمحاربة الخصوم السياسيين من قبل السلطات الحاكمة. حتى وصل الأمر اليوم إلى أن القاضي لا يستطيع مقاومة تأثير الجهة التي عينته، خوفاً على مصدر رزقه ولقمة عيشه، هذا إذا لم يدخل السجن.
فلو أن القضاء في لبنان مستقلاً لكان اتخذ قراراً بإخلاء سبيل الضباط الأربعة، لا أن يترك الأمر لقضاة المحكمة ذات الطابع الدولي ليقرروا إخلاء سبيلهم ويطلب من القضاء اللبناني تأمين الحماية لهم من أعمال ثأرية قد تقع على حياتهم. ولو أن القضاء السوداني مستقلاً أيضاً كما تدعي الحكومة السودانية، لكان استطاع محاكمة المسؤولين عن المذابح التي تعرض لها جزء من الشعب السوداني في إقليم دارفور،ولما كان تجرأ البشير على حماية المتهمين بارتكاب تلك الجرائم ، ولكان قطع الطريق على محكمة الجنايات الدولية ومنعها من إصدار مذكرة توقيف بحق البشير نفسه.
وما يؤكد عدم استقلال القضاء السوداني ما قاله زعيم حزب الأمة السوداني الصادق المهدي في مقالة له نُشرت في أوائل الشهر الماضي بعنوان النظام السوداني والعدالة الدولية أين الخوف ؟ جاء فيها : ” القضاء السوداني قضاء عريق بلا شك وقد ساهم قضاتنا في تأسيس القضاء في كثير من البلدان الشقيقة. ولكن نظام «الإنقاذ» في السودان اعتدى على استقلال القضاء لا سيما في الفترة التي أطلق عليها الشرعية الثورية، حيث أحيل عدد كبير من أكفأ القضاة للتقاعد من دون وجه حق، واستقال آخرون احتجاجا وجرى تعيين قضاة من أعلى السلم إلى أوسطه وأدناه من قضاة ملتزمين حزبياً للجبهة الإسلامية القومية سابقاً، ومن ثم للنظام القائم حالياً. تمت الإعفاءات والتعيينات بوسائل لم تراع قدسية واستقلالية القضاء. ونتيجة لهذه الإجراءات تشرد عدد كبير من القضاة السودانيين المؤهلين. وفي 5/1/2005 أرسل ممثلون لأربعمائة قاض مذكرة لرئيس الجمهورية بصورة لنا جاء فيها بالنص: «نقول بتواضع واحترام إن استقلال القضاء كقيمة حقيقة لا يقوم فقط بإيراد النصوص المنظمة إذ لا خلاف في أن دستور 1998 نص على استقلال الهيئة القضائية غير أنه لا يخفى على أحد أن الدستور شيء وواقع الحال شيء آخر. إن الهيئة القضائية بحالتها الراهنة غير مؤهلة للقيام بدورها المرتقب في حماية الحقوق والحريات وبسط العدل وتحقيق المساواة”.
تُرى ما الذي دفع الضباط الأربعة إلى الإشادة بالقضاء الدولي ودعوتهم اللبنانيين إلى دعم المحكمة ذات الطابع الدولي ومساعدتها للوصول إلى حقيقة عملية اغتيال الحريري وجميع عمليات الاغتيال التي تلتها، إلا لعدم ثقتهم بقضائهم الوطني الذي يخضع للتجاذبات السياسية والمذهبية والطائفية تبعاً لتركيبة النظام اللبناني الطائفي.؟ وما الذي دفع الكثير من السودانيين وفي المقدمة منهم الزعيم السوداني حسن الترابي إلى دعوة البشير لتسليم نفسه وإنقاذ السودان إلا لعدم ثقتهم بالقضاء السوداني الذي عجز عن محاكمة أياً من المتهمين الرئيسيين بارتكاب المجازر في إقليم دارفور وفي المقدمة منهم أحمد هارون وزير الشؤون “الإنسانية ” وقائد ميليشا الجنجويد علي قشيب الذين يتمتعا بحماية نظام البشير نفسه. وما نخشاه في قادم الأيام أن لايستطيع المواطنون في البلدان العربية الحصول على حقوقهم إلا بعد اللجوء إلى القضاء الدولي.إذا ما استمر حال القضاء على ما هو عليه الآن في البلدان العربية .
أخيراً، وبعيداً عن صيغ التأمر والتخوين نؤكد للمرة الألف أن صمام الأمان لاستمرار وجود أية دولة وتطورها وتقدمها يقوم في الدرجة الأولى على وجود قضاء قوي ومستقل فعلاً عن باقي السلطات، على اعتبار أن استقلال القضاء يشكل الضمانة الحقيقية لصلابة الجبهة الداخلية لأي مجتمع باعتباره الضامن ليس لحقوق الدولة، بل ولحقوق الناس وحرياتهم أيضاً، بحيث لا تمس حرية أي فرد، إلا طبقا لأحكام القانون العام وحده، وبحكم من القضاء العام وحده، وبالإجراءات المتبعة أمامه وحدها.
لذلك اهتم البشر منذ القديم اهتماماً كبيراً بالقضاء وأحاطوه بالهيبة والإجلال ، وأقرنوه بعبارات السمو والقداسة ، فالفراعنة اتخذوا من القاضي إلهاً أسموه إله الحق ، وكان الفرعون يطلب من القضاة أن يقسموا أمامه يمينا بعدم إطاعة أوامره ولو أنه طلب منهم هو نفسه ما يخالف العدالة. والإمام علي بن أبي طالب قال لعامله في مصر: “أختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك 00أفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل حاجته إلى الناس” ,حتى أن رئيس وزراء بريطانيا في ونستون تشرشل قال عندما كانت تتعرض بلاده لقصف الطائرات الألمانية خلال الحرب العالمية الثانية:” أن بريطانيا سوف تنهض وتتقدم طالما أن القضاء فيها بخير ويحكم بالعدل”
كلنا شركاء