التفاوض السوري الإسرائيلي

من الدوحة إلى دمشق وتل أبيب… هل تحققت نبوءة ريتشارد هاس؟

null

إميل أمين

بات من المحقق أن الشرق الأوسط يقترب من تحقق ما يشبه النبوءة السياسية لواحد من أصحاب العقليات السياسية الاستراتيجية الأميركية المتميزة للغاية في العقود الثلاثة الماضية، ولاسيما أن إيقاع الأحداث المتسارع في الأسابيع القليلة المنصرمة يقودنا إلى القطع بذلك.. ماذا عن النبوءة.. وماذا عن شأن المتنبئ إن جاز التعبير؟

أما النبوءة، فهي أن الولايات المتحدة الأميركية تعيش بدايات انحسار نفوذها في الشرق الأوسط لمصلحة قوة أخرى تظهر على الساحة، انحسار بعد مد راوح نصف قرن من الزمان، أو يزيد بعقد، فيما صاحب القراءة النبوئية السياسية، هو ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية في نيويورك والسياسي والدبلوماسي المخضرم.

لعله من باب أولى أن نتوقف عند إيقاع الأحداث ولو في عجالة، حتى يمكننا الربط بينها وبين ما قال به هاس.. فماذا عن ذلك الأمر؟

باختصار غير مخل، كان نجاح اتفاق الدوحة بين الفرقاء اللبنانيين، أمر مثار أحاديث ولاسيما انه جرى بعيدا عن تدخل الدبلوماسية الأميركية التي أضحى الكثيرون ينظرون إليها (ولهم في ذلك ألف حق) نظرة ارتياب.

ولم تكد المنطقة تستوعب نجاح الدوحة، إلا وكانت الأنباء المتواترة عن بدء استئناف المفاوضات بين سورية وإسرائيل بوساطة تركية.

وبغض النظر عن مآل تلك المفاوضات، والهدف من ورائها، فإن كونها تجري بعيدا عن الجانب الأميركي، فأمر له دلالاته الآنية وأبعاده المستقبلية، وكلها تصب في الرؤية ذاتها المتمثلة في تقلص النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط لمصلحة قوى جديدة صاعدة في المنطقة تلعب الآن دورا متناميا على صعيد الأحداث.

والشاهد أن الإعلام الأميركي قد استطاع أن يرصد وبعين ثاقبة ما جرى ولهذا نرى « إيثان برونر» من النيويورك تايمز يكتب قائلا «إن ما حدث من الدوحة إلى دمشق، وصولا إلى تل أبيب، لهو انتكاسة للسياسات الأميركية المتصلبة التي تتبعتها إدارة بوش والتي ترفض التفاوض مع من أسمتهم الإرهابيين والمتطرفين، في إشارة إلى إيران وسورية وحركة حماس في فلسطين وحزب الله اللبناني».

هذه الانتكاسة تعود بنا إلى هاس ونبوءته عن تقلص، بل وغياب النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط، ففي صلب أطروحة هاس، والتي نشرت عبر صفحات مجلة «الفورين أفيرز» الأميركية، يشير إلى أن العصر الرابع للحضور الأميركي في المنطقة قد جاء في أعقاب إنهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي. وهذا قد أتاح للأميركيين قدرة على التأثير وحرية في التحرك بشكل غير مسبوق لجهة انتصارهم في معركة تحرير الكويت، وانتشارهم العسكري الطويل الأمد، برا وجوا في شبه الجزيرة العربية، وقيادة الجهود الدبلوماسية، بهدف إيجاد حل شامل وموحد للنزاع العربي الإسرائيلي، والذي بلغ ذروته في ظل إدارة كلينتون قبل أن تفشل في مفاوضات كامب ديفيد الثانية.

وعند هاس أن غزو العراق قد تسبب في تقليص نفوذ الولايات المتحدة في العالم على وجه عام، وفي الشرق الأوسط بصورة خاصة نتيجة لتنامي الشعور المعادي للأميركيين، وتقييد حركة جزء كبير من القوات الأميركية، فكان من سخرية القدر أن تكون حرب الخليج الأولى التي اعتبرت حربا ضرورية، قد شكلت بداية للعصر الأميركي في الشرق الأوسط، فيما جاءت الحرب الثانية التي اعتبرت حرب خيار لتنهي ذلك العصر.

إلى ذلك برزت عوامل أخرى ساهمت في فقدان واشنطن نفوذها في المنطقة، ومنها انهيار عملية السلام كنتيجة لفشل مفاوضات كامب ديفيد في العام 2000، وضعف خليفة ياسر عرفات، وصعود حماس، والنزعة الإسرائيلية الآحادية، وعدم قدرة بوش على مواصلة العمل الدبلوماسي.. وهكذا خسرت الولايات المتحدة دورا فريدا، كانت قد استطاعت من خلاله أن تتواصل مع العرب والإسرائيليين معا.

في سلسلة العوامل التي رأى هاس أنها تعجل بالرحيل الأميركي، والذي قد يبدو أدبيا بادئ ذي بدء، ثم تاليا ماديا ملموسا ومحسوسا، يأتي ما يراه هاس فشل الأنظمة العربية التقليدية في مواجهة تنامي الأصولية الإسلامية، حيث فضّل الكثيرون من سكان المنطقة القادةَ الدينيين عندما خيروا بينهم وبين قيادات سياسية فاسدة، فيما انتظر الأميركيون حتى وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر لكي يتأكدوا من أن المجتمعات المغلقة باتت تشكل الحاضنة للأصولية.

إلى ذلك ساهمت العولمة في تغيير المنطقة، حيث بات من السهل على الأصوليين الحصول على التمويل والأسلحة والمتطوعين والأفكار فيما ساهم الإعلام الجديد، بعد انتشار الفضائيات في تحويل العالم العربي إلى قرية إقليمية مسيسة، حيث بدأت الشاشات تبثّ مشاهد العنف والدمار في العراق، وسوء معاملة السجناء العراقيين المسلمين، والمآسي في غزة والضفة الغربية، والآن في لبنان، ما أدى إلى ازدياد المسافة بين شعوب المنطقة والولايات المتحدة. وهكذا باتت حكومات المنطقة تواجه صعوبة في التعاون مع الولايات المتحدة التي بدا تأثيرها يتضاءل.

وفي تحليل هاس أن نهاية السيطرة شبه الكاملة لأميركا على الشرق الأوسط، أمر تستتبعه ملامح وعلامات جديدة، فماذا عن ذلك؟

ويثير هاس في ملامحه المتوقعة للمنطقة الشرق أوسطية في العقود القادمة هواجس عديدة، لا تتعلق بتقلص الوجود الأميركي فقط، بل تمتد إلى ظهور قوى أخرى، ربما تؤرخ لمرحلة جديدة في تاريخ وجغرافية المنطقة.. ويمكن تلخيص رؤية هاس في عدد من النقاط هي:

{ ستظل الولايات المتحدة متمتعة بنفوذها في المنطقة أكثر من أي قوة أجنبية أخرى، ولكن نفوذها آيل إلى التقلص، ويعكس ذلك التأثير المتنامي لمجموعة من القوى الداخلية والخارجية، والحدود الطبيعية للقوة الأميركية ونتائج خيارات السياسة الأميركية.

{ ستواجه الولايات المتحدة المزيد من المنافسة من قبل السياسات الخارجية لمن يسميهم «دخلاء» آخرين. وفيما يقدم الاتحاد الأوروبي مساعدة بسيطة في العراق، يتوقع أن يبادر إلى طرح مقاربة مختلفة للقضية الفلسطينية. أما الصين فستقاوم فرض ضغوطات على إيران، كما ستسعى إلى ضمان إمكانية حصولها على إمدادات الطاقة.

{ ستصبح إيران إحدى القوتين الأكثر تأثيرا في المنطقة، ومخطئ من يقول إن طهران كانت على شفير تحولات داخلية دراماتيكية.. فإيران التي تتمتع بثروة عظيمة هي الدولة الخارجية الأكثر نفوذا في العراق، كما أنها تمسك بسلطة مهمة على حماس، وحزب الله.

{ ستصبح إسرائيل الدولة الوحيدة في المنطقة التي تتمتع باقتصاد معتدل قادر على المنافسة دوليا، لكن سيبقى عليها أن تتحمل تكلفة احتلالها الضفة الغربية، وان تتعامل مع مشكلة أمنها المهدد لتواجه تحديا أمنيا متعدد الأبعاد على أكثر من جبهة.

{ لا يلوح في الأفق أي توجه نحو عملية سلام حيوية، ولاسيما في أعقاب العملية الإسرائيلية المثيرة للجدل على لبنان.

{ سيبقى العراق، وهو جوهر قوة العرب، في حالة من الفوضى في السنوات المقبلة، في ظل حكومة مركزية ضعيفة ومجتمع منقسم وسط تنامي أعمال العنف الطائفية.

{ سيبقى سعر النفط مرتفعا، نتيجة للطلب المتزايد من قبل الصين والهند والنتائج المحددة للجهود التي قامت بها الولايات المتحدة للجم الاستهلاك وزيادة احتمالات حدوث نقص في التغذية لنفطية.

{ سيستمر التسلح بنمط متسارع بحيث تصبح الجيوش الخاصة في العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية أكثر قوة، وستنبثق الميلشيات كنتيجة لضعف الدول، بخاصة تلك التي تواجه عجزا في بسط سيادتها وقدرتها على السيطرة.

{ سيبقى الإرهاب، الذي هو بحسب تعريفه، الاستعمال المتعمد للقوة ضد المدنيين في مسعى لتحقيق مآرب سياسية، سيبقى ظاهرة أساسية في المنطقة، سيظهر في المجتمعات المنقسمة، كما في العراق، وفي المجتمعات التي تسعى فيها الجماعات الراديكالية إلى إضعاف أو إسقاط شرعية الحكومة.

{ سيسد الإسلام الفراغ السياسي الثقافي السائد في العالم العربي، على نحو مضطرد، وسيشكل مؤسسة لسياسات غالبية سكان المنطقة، فالقومية العربية والاشتراكية العربية، أصبحا من الماضي.. والديمقراطية تنتمي إلى المستقبل المنظور في أفضل الأحوال حيث باتت الوحدة العربية شعارا وليست واقعا. كما أن نفوذ إيران والمجموعات المرتبطة بها، تمت تقويتها والجهود المبذولة من أجل تحسين العلاقات بين الحكومات العربية من جهة.. وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، قد أصبحت معقدة.

وفي هذه الأثناء تتنامى التوترات بين السنة والشيعة في سائر أنحاء الشرق الأوسط، مخلفة وراءها مشكلات في الدول ذات المجتمعات المنقسمة مثل البحرين ولبنان والسعودية.

والشاهد أن المسطح المتاح للكتابة يضيق عن سرد وعرض رؤية هاس التي بدأت علاماتها تحلق في الآفاق الشرق أوسطية بعد اتفاق الدوحة، وبدء المفاوضات بين دمشق وتل أبيب. غير أن الخوف كل الخوف من أن يكون هذا الغياب مقدمة لاندفاع أجرام في فضاء الشرق الأوسط على غير هدى، وفي غيبة من أي فعل لقوانين الجاذبية،ما يمكن أن يجعل من تصادمها مع بعضها البعض، أمرا واردا وبشدة، وعلة لنتائج محزنة.. ولا يعني هذا ندما، أو أسفا على زوال الحقبة الأميركية، بقدر ما يعني إدانة واضحة لقطب دولي قائم قاد الشرق الأوسط في طريق الندامة، عوضا عن سكة السلامة، كما يقول الراوي.

كاتب من مصر


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى