تكرار ما اعتدنا عليه: الرقص فوق البركان!
نهلة الشهال
تبدو الصورة في غاية القتامة: اللبنانيون متروكون إلى قلقهم العصابي، الانفصامي، الذي يتراوح بين الخوف من انفجار عام للموقف ورغبة كل طرف بتحقيق الغلبة، فيما السعودية تعلن انتهاء مبادرتها المشتركة مع سورية، ووزيرا خارجية تركيا وقطر ينسحبان من جهودهما ويغادران بيروت، والرئيس أوباما يهنّئ الرئيس مبارك بصفته مؤيداً للمحكمة الدولية، في إعلان أنها الفيصل في الموقف!
سؤال أول، شرير: بما أن الوضع هو على هذا القدر من الانسداد، وعلى قدر يماثله من استدعاء السأم والضجر من بلد لا يني يكرر، على امتداد تاريخه، الرقص فوق البركان، فماذا لو تُرك حقاً لبنان لأمره، ينفجر تحته البركان المعتمل كما يشاء! ذلك بالطبع موقف لا يستقيم. ولا بد من دفع الهيئات السياسية والأهلية كافة، والنخب على أشكالها، إلى إعلان صارخ ضد هكذا منحى، وأن يطاول بتحذيره جميع الأطراف. لعل إعلاناً إجماعياً على هذه الشاكلة لا يتمكن من تجاوز الصعيد المبدئي، ولكنه يحتفظ مع ذلك بأهميته. بلورة موقف يقول بوضوح حاد إن الانتقال بهذه الأزمة السياسية الكبيرة إلى صعيد أعنف في التعبير عن نفسه، فعل يدين صاحبه أياً كان، وبصرف النظر عن مضمون ما يطالب به.
لكن، وعلى رغم ضرورة الاشتغال على تأسيس توافقات مبدئية في زمن ضياع المقاييس هذا (في كل مكان وليس في لبنان فحسب)، فتسجيل الإقلاع عن العنف في لبنان لا يكفي، لأن التطورات قد تحكم المسار وتنزلق به نحو إسالة الدماء، إذ يعرف الجميع مقدار عجز الجميع عن تلافي حوادث تبدأ بشرارة صغيرة وتنتهي بحريق.
ثم سؤال ثان أكثر واقعية، يتعلق بالمتوارين عن المشهد بينما ظلالهم تقتحم المكان: سورية قليلة الكلام هذه الأيام، وإسرائيل تستعجل انهيار الأمور. ويميل المرء إلى تفسير الهدوء السوري – وما يوحي به من فسحة اطمئنان – برغبة دمشق في إبقاء هامش من استقلاليتها عن الطرف اللبناني الحليف لها، إن لم يكن بالعمق فتكتيكياً وفي مشهد الصورة، فتحتفظ بذلك بشرط أساسي من شروط لعب دور الوسيط حين يحين وقته. ثم، ولعل القيادة السورية الخبيرة بالملف اللبناني كما لا أحد سواها، ترى في التصعيد الجاري بعض المبالغة أو التهويل، بمعنى الافتعال الموظف سياسياً. وهي وظيفة متقاسمة، تتعلق بابتزاز كل طرف للآخر، ودفعه إلى الخوف من التطورات المستقبلية، والى التنازل ولو بعض الشيء.
تفسير المسلك الإسرائيلي لا يحتاج إلى عناء كبير. فتل أبيب قد لا تكون مهيأة اليوم لشن حرب شاملة على لبنان، لأسباب داخلية من جهة، وإقليمية ودولية أيضاً. ولكن مصلحتها تكمن في توتير أجوائه والدفع بها إلى حافة الانفجار. وتهديدات إسرائيل هي بذلك أحد عناصر الابتزاز التي تتموضع في الساحة وتشكل المشهد. ولو أن أي حرب إسرائيلية على لبنان اليوم، وبأي حجة وحدود، مستبعدة، ليس بسبب رادع أخلاقي أو إنسانوي ما، بل ولحسابات باردة تعتبر أن مثل هذا الدخول الميداني الإسرائيلي على الساحة يضر بالمسار الذي تم رسمه حتى تولِّد المحكمة الدولية أقصى المفاعيل الممكنة. هي إذاً، هنا أيضاً، لعبة العض على الأصابع.
ويتعلق السؤال الثالث بالمحكمة تلك، وبآثار القرار الظني الذي «قبله ليس كبعده». نجح حزب الله على امتداد الأشهر الفائتة، والى حد بعيد، في إشاعة الطعن بصدقية المحكمة إن لم يكن بشرعيتها. وهو وحلفاؤه مستمرون في هذا الجهد الذي يقع في بند الصراع السياسي المشروع. ولا بد هنا من استطراد ليس أبداً خارج الصدد: من أن الانقسام المذهبي في لبنان، السّنّي/الشيعي، يطغى على المحكمة وحتى على موضوعة إسرائيل، وأن المحكمة تلك وقرارها الظني ليسا في وعي اللبنانيين سوى أدوات في معركة تدور في مكان آخر، جذورها منغرسة في تاريخ طويل من الخلاف على تعيين الحصص في لبنان. أترك سنياً عادياً، مواطناً غير مسيس بالمعنى المبني، يفتح فمه، فماذا سيقول؟ لن يتناول سلاح حزب الله الثقيل بذاته، بل بصفته أداة توظفها الطائفة الشيعية في الاستيلاء على نصيب أكبر من عوائد البلد! ويروح ذلك المواطن يصف لك الضاحية الجنوبية وكأنها جنة يسيل في شوارعها الذهب! ثم يقول، بين خرافة وحقيقة، إن التجار الشيعة يُدخلون كل بضائعهم إلى لبنان معفاة من الضرائب، بحكم سيطرتهم على المطار، وأن الشيعة احتلوا كل المناصب الإدارية الخ… بينما يقول لك مواطن شيعي عادي إنهم حُرموا لعقود من كل شيء، وإن نهوضهم الحالي هو نتاج ديناميتهم وعذابات ذلك الحرمان وتلك الهجرة، ولا صلة له بتلك الأوهام، وإن حصولهم على الدعم (من إيران أو سورية) يكافئ حصول سواهم على الدعم من السعودية أو مصر أو الأردن… ويصفق المواطن المسيحي العادي لهذا أو ذاك، معتبراً، وفق هواه، أنه على كل حال شريك لأحدهما (لم يقلها مواطن عادي بل العماد عون في تصريح متلفز منذ أسابيع قليلة)، وإن الانحيازات هنا ليست إلا اجتهادات! ولا يفعل المحيط الإقليمي، بالأخص ما جرى ويجري في العراق، وكلام مسؤولين، تارة إيرانيين وطوراً عرباً، سوى تعزيز تلك «المخاوف»، والدفع نحو التحوط المسبق من نتائج تحققها.
وهذه إشكالية لا بد من التعامل الصريح معها، بشموليتها وعــمقها، وبصرف النظر عن صحة ادعـــاءات كل جهة، ومقدار المبالغة أو المــغالــطة فيها، إلا إذا كانت القوى السياسية تتبنّى مقولة إن الإدراك المتحقق للواقع ليس مهماً، وإن الحقيقة تكمن كجوهرة مكنونة في واقع موضوعي مطلق، وإن أساس الصراع «سياسي وطبقي وليس مذهبياً»، كما يقول البعض بأنفة متعالية، شبه أبوية.
أخيراً، ماذا إذاً؟ الجواب يشبه لغة المنجمين: الأزمة السياسية التي تعصف بلبنان شديدة ولا شك، ولكنها قابلة للإدارة، تعايشاً مديداً معها، كالعادة، على رغم المزيد من تدميرها لكل أثر يعود لمؤسسات دولتية – إذا بقي شيء للتدمير – وعلى رغم إفقارها المتعاظم لمن ليس بيدهم حيلة، ويعجزون عن استثمارها في «بزنسهم» (وهذه الفئة الأخيرة أيضاً موجودة). والمسعى هو لإبقائها تحت هذا السقف، ليس بالتحايل (فالسقف ذاك فيه مصلحة للجميع… حتى إشعار آخر)، بل بإنضاج واحد من شروط بناء أي بلد، أي بصوغ توافق وطني حول نبذ العنف بكل أشكاله ومظاهره. هل هذه دعوة لا تتجاوز المثاليات؟ ربما. ولكن ماذا عداها اليــوم؟ حــيث لن يـرضخ طرف لآخر، وليس مثل هذا الرضوخ مطلوباً، علاوة على استحالته.
الحياة