خطاب الحرب الأهلية في “المنار”
محمد الحاج صالح
خطابُ الحربِ الأهلية في “المنار”
تلعبُ فضائيةُ “المنار” التابعة لحزب الله دوراً تعبوياً فائقَ الأهمية. هي ليستْ كأيّ فضائية إخبارية، تَتمفصلُ بمرونةٍ نسبية مع السياسي والثقافي والديني مثلاً. بلْ إنّها لا مفاصلَ لها هنا، أو أنّ مفاصلَها مُتصلّبةُ لا أساسَ لأيّ مرونةٍ فيها. الدينيُّ والثقافي والسياسي يخدمُ المشروعَ. وكلّ خبرٍ أو حقيقة أو تحركٍ لا يخدمُ المشروعَ سيُصار إلى لوي عنقه ومَنْتجتِهِ كي يتوافقَ ورؤى مشروعِ حزب الله. لا مكانَ للموضوعية هنا، ولا للتجرّد، ولا لقبولٍ مقنعٍ لرأي الآخر. الهمّ الأولُ والأخير هو المُكاسرة. إما الربحُ أو الخسارة، مع استبطانِ أنّ حزب الله هم الغالبون. أيْ انتاجُ الخبرِ أو التحليلِ أو التعليقِ بصورةٍ تَشي من أوّل كلمةٍ بإنـّ”نا” أصحاب الحق وإنـّ”هم” أهل الباطل. وهل يستوي أهلُ الباطل بأهلِ الحقّ؟ “المنار” هي “برافدا” حزب الله. ومنَ الواضح أنّ منْ يعملون فيها لصيقون جداً بالصفّ الأوّلِ للحزب. يمكنُ القولَ أن خطابَها وأفكارها وطرائقَها وحملاتِها هي بالضبط ما يفكرُ به ويريدُه هذا الصفُّ.
يوفّرُ الموقعُ الألكترونيّ للمنار مادةً دسمةً للمحلّل والدارس لخطاب الحرب الأهلية ومسوّغاته. كثافةُ المادة وتحايلُها في التنويع يتمركز على نقطتين مدحُ الذات حتى التورّم بالقدسيّة، وقدْحُ الآخرَ حتى مَسخِهِ إلى صرصار. كلّ ما يخصّ الذات هو إيجابيٌّ بلْ ومنزّهٌ حتى المليار دولار التي تدفعُها إيران سُميتْ ومن رأس الحزب بالمالِ الشريف. والشرفُ هنا فيه إحالةٌ إلى مرجعيةِ دينيةِ أولاً، وفيه أيضاً نزعُ الشرف عن الآخرين.
يتوسّلُ العاملون بالمنار بلغة التخوين. وهو أمرٌ غير مُستغربٍ مادامت الذاتُ شريفةً ومنزهةً، وما دام الآخرُ مدنّسٌ وتافهٌ. لكن أخطر وسيلة في النفخِ في خطابِ الحرب الأهلية هو التعليقات التي يختارُها العاملون بعنايةٍ مَحسُودةٍ، لتصبّ في ثنائية تقديسِ الذات وتدنيسِ الآخر. لن يجدَ المرءُ رأياً مخالفاً على الاطلاق… بلى قد يمرّ تعليقٌ واضحُ الدلالة كلّ أشهر. منذ حوالي النصف سنة نُشرَ تعليقٌ يُفترض أنّ صاحبَه سنيّ ومن تيار المستقبل باعتبارِه يمدحُ رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري. ذاك التعليقُ يشيدُ بيزيد بن معاوية بن أبي سفيان بصورةٍ لافتة. لا حاجة للتعليق هنا.
في يومٍ واحدٍ وفي خبر تحليلي واحدٍ منشور يوم 11كانون الثاني 2011 يجدُ المرءُ ذاك التناغم بين صياغة الخبر التحليل، وبين التعليقات. يبدو الأمر تماماً كما لو أنّ الخبرَ هو الرسن فقط، وأن الباقي أيّ الحصان بكل عدته وقوته هو التعليقات التي تتوسل لغة عنيفة. هي لغة الحرب وإن لم تكن الحرب قائمة.
يقعُ الخبرُ التحليليّ تحت عنوان ” الأجواء التفاؤلية تستنفر صقور 14 آذار وتخرجهم عن صمت”. رغم أنّ العنوانَ مغسولٌ بسبعة “أمواص” وفقَ المثل “الرقّاوي” ليبدو أقرب إلى الحيادِ، فإنّهُ يَخلصُ إلى الثنائية ذاتها، فضلاً عن أنه يُفلتُ الرسنَ لتعليقاتٍ فالتة. وهي التعليقاتُ التي لا يمكن لأيّ محايدٍ إلا أنْ يرى فيها منتقاةً وتعبّرُ عن مَكنون العاملين في المنار، أو الصفّ الأوّلِ في حزب الله. فكلمةُ صقورٍ الواردةُ في العنوان لم تعجبْ “سام!” من الإمارات ورأى أنْ تُستبدلَ. يقولُ “يا جماعة شو دخل الصقور بشوية مرتزقة وشذاذ افاق عملوا زعاماتهم بدماء اللبنانيين وتشبيههم بالصقور فيه ظلم كبير لهذا الطائر الجميل فيرجى تغيير التسمية الى ج…14 اذار بيكون افضل”. المطلوب تسفيههم ومحقهم في الكلام كي يسهل الإجهاز عليهم فيما بعد.
أمّا “لبنان الجنوبي” فيُورِدُ الخطةَ التي سرّبها حزبُ الله والتي يجري حديثُ واسعٌ على أنّهُ سينفذُها مع حلفائه فور صدورِ القرار الاتهامي من المحكمة الدوليّ.ة وعذراً سلفاً عن المقتطفِ الطويلِ ذي الدلالة وعن الأخطاء اللغوية فهي في الأصل:
“خلص فترة السماح خلصت وبداء الجد لا حكومه ولا حكم لا للحريري ولا لاي من يدور بفلكهما من الان ولغاية 3011 وبعهدها ان استطاعو لياتو ليحكمو لبنان
الى كل الاتحادات العماليه والى كل الشعب اللبناني والى كل من تاذى خلال سياسات الحريرين منذ اكثر من عشرين عام تحضرو وتهيئو لانتفاضة المظلوم على الظالم لانتفاضة واخذ الحق بالقوه ممن نهبكم وجعل حياتكم جحيم وعيشه لا تطاق كل من اخذ حق له في سولديرومن نام على عتمة العشرين عام ومن دفع اموالا طائله لشربة ماء بحسره الى كل من عانى من اجرام الغلاء وتاكل مال تعبه ليصبح زهيد الى كل من حرم من مستشفى ورمي في الشارع الى كل كاهل ومتقاعد امضى حياته يخدم وطنه وعياله ولم تشفع له شيخوخه وضمانه الى كل من طرد من وظيفته وسجن ظلماوعدوانا 4 سنين الى كل من قتل في تموز ويعلم من ساعد قاتليه الى كل من اتهم باشرف ما عنده وما ضحى به طيلة سنوات الاحتلال حتى التحرير بالله عليكم لا تجعلو من الشعب الجزائري اشطر منكم ومن الشعب التونسي يضحي اكثر منكم الان انتهى عصر اللعب وعصر المسايره وصلنا الى الجد ويجب ان يدفعو الثمن”
ما بين استنكارِ “سام!” المُستكثرِ على أيّ من مُنتمي 14 آذار في أنْ يدعى صقراً حتى من بابِ الاستعارة اللغوية، وبين الخطة التي أفصحَ عنها “لبنان الجنوبي” والتي هي وفق المراقبين ثقافةٌ مُتمكّنةٌ لدى المعارضة، يقعُ شتمٌ وسبابٌ وتصغيرٌ وتتفيهٌ وتبخيسٌ وتحقيرٌ للآخر، وتعالٍ وتنزيهٍ للذات. يحتارُ المرءُ فعلاً، فما دام الخصمُ إلى هذا الحدّ موهناً وحقيراً وتافهاً ومسخاً، ومادامت الذات مقدسةً وشريفةً وقوية، لِمَ إذن كلّ هذه الصخب؟
فمن “الجحشعيّة” إلى توصيفِ رئيس الوزراء الحريري بأنه ولدٌ يلعب بالأتاري، تترى الشتائمُ والسبابُ والتتفيه ومئاتُ الصفات التحقيرية. كلّها وبوضوح ترسمُ خطّةَ العاملين في المنار وغايتَهم من النصّ “الإخباري التحليلي!”. إنها الحصانُ الجامحُ الذي أُفلت رسنُهُ. لغةٌ عاميّة غرائزية لا تتغيا سوى الإهانة. والإهانةُ أوّلُ الحربِ، وهي مادة تعبويّة أساسٌ في جرِّ الخصمِ إلى الحرب. علينا هنا أن نتذكّرَ التكتيكَ الذي استخدمَهُ الأمريكان في إهانة “صدام حسين” لدفعه إلى التصلّب. فأي غاية تُلتمس من إهانة رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع باشتقاق كالـ”جحشعية”؟ وأيّ غايةٍ تُلتمسُ من وصفِ الحريري بأنه ولدٌ يلعب بالأتاري؟ وهو أيْ الحريري يُستقبلُ باحترامٍ ويبني علاقاتٍ مع دولٍ ورؤساء مميزين من موسكو إلى واشنطن، ومن طهران إلى السعودية ومصر.
ماذا يكون كلّ هذا إن لم يكن اهتزازَ صورة الذات واكتشافَ الخَواء والزيف فيها؟
والأهمّ ربما أنّه تعبيرٌ عن شعور بالذنب دفين وغير واعٍ، فلاتجدُ الذاتُ المُنشرخة سبيلاً للدفاع سوى الامعان في الهروب إلى الأمام بِتَتْفيه وتبخيسِ الآخر. أمّا الحقيقةُ التي لامراءِ فيها، فهي أنّ الذاتَ “المنار والحزب” لا تريد النظرَ في باطنِها لأن هذه الصفات هي واقعياً صفاتُها، وأنها تفضّلُ على الدوام الذهابَ إلى الحربِ بدلاً من النظر في المرآة.